(E) Papers/Articles in Arabic

 

الصحـوة الإسلاميـة والصليـبـيون الجـدد

نظرة نقدية لحرب أمريكا على

الإرهاب

 

ححححح ممممم ممممممم

ممممممممنننن ننتتنتت تتتتت

 

بقلم

 

 

مركز الدراسات الإسلامية

 

جامعة عثمان بن فودي صكتو


 

 

بحث قـدم للمؤتمر الوطنـي الثالث والعشرين لجمعية معلمـي

 

الـدراسـات العربيـة والإسـلاميـة بنيجيـريــا

 

الـمنعقــد بـيـن ١٥–١٨ رجـب ١٤٢٥هـ

 

الموافق ٣٠ أغسطس – ٢ سبتمبر ٢٠٠٤م بصكتو

 

 

المقدمة

       منذ بزوغ شمس الصحوة الإسلامية وأعداء الأمة يتربصون بها الدوائر ويتحينون الفرص لضربها والقضاء عليها. هؤلاء الأعداء الممثلون فيما يطلق عليه تيار اليمين المسيحى الصهيونى المتطرف في أمريكا وجدوا الفرصة سانحة في أحداث ١١ سبتمبر ٢٠٠١م فأطلق الرئيس الأمريكى “جورج بوش ” صيحته الصليبية وشنها حربا شعواء على الأمة . وجاء دور المنافقين من الحكام والملوك والسلاطين المسلمين فسارعوا إلى الإستجابة لمطالب أمريكا وشن الحرب على قومهم وبنى جلدتهم. فأصبحت الصحوة الإسلامية وأصبح الإسلاميون بين فكى كماشة وكانت محنة من أشد المحن على جميع شرائح العمل الإسلامي. وقد خاضت الولايات المتحدة معارك دامية ضد المسلمين في افغانستان والعراق وبعد صدور تقرير لجنة تحقيق أحداث سبتمبر بدأ الكلام في دوائر الحكومة الأمريكية حول دور إيران في تلك الأحداث مما يدل على أنها هي الأخرى مرشحة لضربات أمريكا. هذا إلى جانب الهجمات الأمريكية على المعاهد العلمية والثقافية والمؤسـسات الاقتصادية والمنظمات الخيرية والاغاثية والمناهج التعليمية وغيرها

       ولكن ما حقيقة حرب أمريكان على الإرهاب؟ وهل هي حرب على الارهاب ام هي حرب على الإسلام؟ وهل ما نشاهده إلا بداية لما يسمونه صراع الحضارات ؟ ثم كيف السبيل إلى التعامل مع هذه الظاهرة الخطيرة؟ وما هي تداعيات هذه الحرب علينا نحن المسلمين في نيجيريا؟ وهل يمكن ضبط موجات الكراهية والقتل ضد المسلمين في نيجيريا بما يحدث للمسلمين في سائر بقاع الأرض مثل فلسطين والبلقان والهند؟ وما مغزى وجود قواعد عسكرية امريكية في “خليج غينيا” على أبواب نيجيريا؟

       وفي الأسطر التالية نحاول الاجابة على هذه التساؤلات وغيرها عن طريق قراءة واعية للأحداث وما يصدر من الدراسات والتقريرات من الدوائر المعنية ومراكز صنع القرار

 

الصحـوة الإسلاميـة والصليـبـيون الجـدد

“لقد تفجر سيل الصحوة الإسلامية في كل مكان، ورأيناها صحوة عقول وأفكار، وصحوة قلوب ومشاعر، وصحوة إرادات وعزائم، وصحوة عمل وسلوك، وصحوة غيرة وحماس، وصحوة دعوة وجهاد، وصحوة تغيير واصلاح، وتجلى أثرها في الشبان والشابات، وفي الجوامع والجامعات، وفي الثقافة والفكر ، وفي ميادين الجهاد وفي الاقتصاد والسياسية، وفي الأسرة والمجتمع، وفرضت نفسها على الساحات كلها، وكان أمر الله قدرًا مقدورا”).1)

هكذا يصف المفكر الإسلامي والداعية الكبير الشيخ يوسف القرضاوي ظهور الصحوة الإسلامية وشيوعها واتساعها وشمولها الأمر الذى أقلق مضاجع الكفرة والفجرة والظلمة والطغاة من المستعمرين والصهيونيين والشيوعيين والحكام المنافقين وعبيد الفكر الغربى والمترفين المتحللين وغيرهم من أصحاب الشمال. أرعبهم وأقلق مضاجعهم أن تنكشف غمة الإسلام وتزاح محنته، وينطلق مارده، ويعود إلى سابق عهده، إستقامة ويقينا وقوة ووحدة. فهبوا يمكرون ويخططون ويرصدون البلايين لدراسة الصحوة ثم لتعويقها، وخصوصا بعد ان سقط الاتحاد السوبيتى، ورشح الإسلام ليكون هو العدو الجديد. والذى تولى كبر هذا العدوان هي إمبراطورية الشر الجديدة: الولايات المتحدة الأمريكية متمثلة في حركة تيار اليمين المسيحي الصهيونى المتطرف

والصهويونية المسيحية حركة دينية مسيحية تدعو إلى العصمة الحرفية للكتاب المقدس عندهم، والعودة الحقيقية للمسح عليه الإسلام، وقيام حكمه الألفى الذى تكون عاصمته مدينة القدس. وصهيونيتها تأتي من دعوتها إلى وجوب عودة اليهود إلى أرض الميعاد (فلسطين)تحقيقا للنبوءات التوراتية التي يؤمن بها المسيحيون. ويطلق عليها أيضا إسم الأصولية المسيحية أو الأصولية الانجيلية أو الصهويونية غير اليهودية

وتعود جزور هذه الحركة إلى القرن السادس عشر الميلادى عندما قام زعيم حركة الإصلاح ورائد المذهب البروتستانتى “مارتن لوثر” بنشر كتابه المشهور عام ١٥٢٣م بعنوان “عيسى ولد يهوديا”. وبهذا تكون حركة الصهيونية المسيحية أقدم من الصهيونية اليهودية بثلاثة قرون. وربطت حركة الإصلاح البروتستانتية الإيمان المسيحى بعودة المسيح بقيام دولة صهيون، أى بتجمع الجهود حتى يظهر المسيح فيهم مرة ثانية. وهذا سر إنتشار الصهيونية في المجتمع الأمريكى البروتستانتى وتبنى الولايات المتحدة لمشاريع اليهود وديلتهم “إسرائيل”.(2)

إستطاعت حركة الأًصولية المسيحية التغلغل في أعماق السياسة الأمريكية بفضل اللوبى اليهودى والمؤسسات الاقتصادية والمالية والاعلام الأمريكيى التى يسيطر عليها جميعا اليهود الصهانية حتى تبوأت المناصب العالية واحتلت مراكز صنع القرار في الجزبين الكبيرين الحزب الجمهورى والحزب الديمقراطي ومن ثم نفوذها الملحوظ في الإدارة الأمريكية الحالية بقيادة “جورج بوش” الابن الذى هو من أشد رؤساء أمريكا تطرفا وأصولية ومعه “صقوره” من أمثال” ديك تشينى” نائبه ووزير الدفاع “رامس فيلد”

شكلت الصحوة الإسلامية- منذ ظهورها – أكبر تحد للأصولية الانجيلية ووقفت دون مطامعها في العالم الإسلامي ولاسيما في فلسطين المحتلة حيث ظلت القوة الفعالة التي تناضل دون الإستعمارالصهيوني والإستيطان اليهودى والتطبيع السياسي والإقتصادى مع دولة الكيان الصهيوني، فلجأت الأخيرة بمكر ودهاء إلى إحياء الروح الصليبية عن طريق إذكاء فكرة الهيمنة الإمبريالية كما تجلى ذلك واضحا في سياسات الولايات المتحدة الأمريكية – والتي تسير في ركابها بريطانيا أيضا – في منطقة الشرق الأوسط والتي تمصلت في ضرب العراق فيما بات يعرف الآن بحرب الخليج الأولى وحصاره وضرب شعبه بالطائرات والقذائف والصواريخ وأنواع الأسلحة المحظورة دوليا ثم ضرب الحصار الإقتصادى عليه وقتل أطفاله بالتجويع ومنع الغذاء والدواء


حرب على الإرهاب أم حرب على الإسلام؟

       وجاءت أحداث ١١ سبتمبر ٢٠٠١م بزلزالها وصواعقها وصدماتها العنيفة على الامبراطورية الشريرة فانتهزها اليمين المسيحى الصهيوني المتطرف فرصة سانحة وأطلق الرئيس الأمريكي “جورج بوش” صيحته الصليبية وحرك جيشه “المغولى البربرى المتوحش وآلاته الحربية الجبارة واستنفر إخوانه ونادى خلفاءه وجمع كيده فتداعت الامم بالأمة كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. وسارع المنافقون من الحكام والملوك والسلاطين المسلمين أصحاب الجلالة والفهامة والرقة الدينية (!) سارعوا الى الاستجابة لنداء “بوش” ولسان حالهم يقول: نخشى أن تصيبنا دائرة

       ومهما يقال عن هجمات سبتمبر وعن الذين قاموا بها، فإنها – والله – ضربات في وجه الإستكبار أثلجت صدور المؤمنين ولطمات على جبين الطغيان فرحت بها القلوب وقرت بها العيون، فكم غزونا ولا نغزوهم، وكم جاسوا خلال ديارنا ولا نقترب من ديارهم. فلاشلت يد ضربتهم ولا نامت عين بكتهم. ثم إنها – تالله – ضربات مباركة ما زالت توالى علينا بركاتها منذ أن وقعت . ومن بركاتها أنها حطمت أسطورة قوة أعداء الله وأن لا قبل لنا بقتالهم، وحطمت كذلك وبشكل نهائى أكذوبة الديمقراطية وحقوق الإنسان وغيرها من الشعارات البراقة التى طالما تشدق الغربيون بها وتعالوا بها على عباد الله . وأكثر من هذا بركة أنها خرجت بالأمة من دور الدفاع الذى طالما لعبناه إلى طور الهجوم الذى طالما انتظرناه. والله عز وجل يقول ” قاتلو هم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ” (التوبة : ١٤) . ومن بركاتها أيضا أنها أيقظت ضمير الأمة ووحدت مشاعرها وجلت مفاهيمها ففتح الله بها أعينا عميا وآذانا صمًا وقلوبا غلفا فتبينت السبيل ووضح المنهاج وتمحصت العباد فظهر للعيان من هو مع “بوش” ومن هو ضد “بوش” حسب تقسيم الرئيس الأمركى للعالم: “من ليس معنا فهو ضدنا” فأصبح العالم حزبين : حزب الرحمن وحزب الشيطان وأصبح الناس فريقين: فريق في الجنة وفريق في السعير

 

ميادين الحرب على الإرهاب

       إن حرب أمريكا القائمة على العالم الإسلامي بشعوبه ومؤسساته وقيمه وقطاعاته المختلفة ليست حربا جديدة إنما هي حرب قديمة قدم الإنسان نفسه. إنها المدافعة بين قوى الخير وقوى الشر، أو بين محور الخير ومحور الشر كما يحلو للإنجليليين أن يسموها. إن الرئيس الأمريكيى “جورج بوش” أعلنها حربا صليبية ، ثم تراجع عن هذه التسمية وقنعها بقناع “مكافحة الإرهاب”. لكن معارك هذه الحرب وميادينها المختلفة تبين بطريقة جلية لا لبس فيها أنها حرب شاملة ضد الإسلام والمسلمين هدفها الأول القضاء على الصحوة الإسلامية في مهدها واستباحة الأراضى الإسلامية ومصادرة خيراتها وثرواتها ومحاصرتها عسكريا وثقافيا واقتصاديا حتى لا تقوم لها قائمة

 

معارك دامية

       من الميادين التي تدار عليها هذه الحرب الهائلة ميدان المعارك الدامية. لم تزل أمريكا منذ قيامها – وخصوصا بعد خروجها من عزلتها عقب إنتهاء الحرب العالمية الثانية- تشن حروبا طاحنة على شعوب العالم المستضعفين بقصد إذلالهم واستعبادهم ونهب ثروائهم . وقد نال الشعوب المسلمون حظهم الوافر من هذه “الهدية المتحضرة” من رائدة ” العالم الحرِّ”

       أما في هذه الحرب القائمة فأول ميدان إفتتحت به أفغانستان حيث شن الأمريكان غارات برية وبحرية وجوية على هذا القطر المسكين واستعملوا كل أنواع الأسلحة الفتاكة بما فيها القذائف الذكية والبليدة أيضا وكافة أنواع الأسلحة المحظورة دوليا مثل القذائف العنقودية والقذائف المثقلة باليرانيوم وغيرها. وقد ظهرت مدى كراهية هذه الإمبراطورية الكافرة للإسلام والمسلمين حيث انزلوا القتل وألحقوا الدمار بالمدنيين المسالمين الأبراء وأعدموا الأسرى بالآلاف وبالوسائل الهمجية والأساليب اللأَّأخلاقية متجاوزين بذلك كل الحدود الشرعية والأخلاقية والإنسانية وضاربين عرض الحائط بكل القيم والمقاييس والأعراف المعترف بها لدى كافة الأمم المتحضرة . ولا تزال الحرب سجالا بين الأمريكان وحلفائهم وعملائهم المنافقين من جهة وبين المجاهدين من الطالبان والقاعدة وغيرهم من جهة أخرى

       ثم افتتح الأمريكيون ميدانا آخر في العراق وعلى مشارف الأراضى المقدسة، وهي معركة قامت على الأكاذيب والخداع والدجل السياسى وتحت ستار “مكافحة الارهاب” ومحاربة الدكتاتورية ونشر الديمقراطية لكن الأفعال كشفت عن النوايا، وجاءت الأحداث والأيام لتؤكد خلو العراق من أسلحة الدمار الشامل التي كانت من المبررات الكبرى لهذه المعركة عند الأمريكان وحلفائهم من البريطانيين وغيرهم . ثم صدر تقرير “لجنة التحقيق في أحداث سبتمبر” التي شكلتها الإدارة الأمريكية فبرئت النظام السابق في العراق من تهمة العلاقة بتنظيم القاعدة وما يسمى بالإرهاب الدوليى ومع ذلك فلا تزال صقور “البيت الأبيض ” تصر على عدوانها على العراق وأحتلال أراضيه وقتل شعبه وتدمير منشآته وتلويث بيئته رغم كل التنكرات والتنديدات من أكثر شعوب العالم بما فيهم الشعوب الغربية من الأمريكان والأسبان والألمان وغيرهم

       هذا إلى جانب الميدان الفلسطينى وجهاد المقاومين ضد الإحتلال الصهيونى والاستيطان اليهودى والإستكبار الأمريكى من “حماس” و “جهاد” والفصائل الجهادية الأخرى. وقد تحول هذا الميدان أيضا بعد أحداث سبتمبر إلى ميدان “مكافحة الإرهاب” الذى يعنى محاربة الإسلام حيث صبغت الولايات المتحدة صفة الإرهاب على المقاومين الذين يناضلون من أجل تحرير وطنهم وإنهاء الإحتلال على أراضيهم . وأطلقت الإدارة الأمريكية يد المجرم السفاح “شارون” الذى يسميه “جورج بوش” المعتوه ” رجل السلام” فأسخن في الأرض قتلا ودمارا وفسادا وواصل حصاره على الشعب الفلسطينى مخرقا بذلك كل “معاهدات السلام” التي تم التوقيع عليها بين ما يسمى بالسلطة الفلسطينية والكيان الصهيونى المجرم

       وهناك ميادين أخرى لا تقل أهمية من الميادين المذكورة تدار عليها معارك الإسلام ضد الكفر مثل الميدان الكشميرى والميدان الشيشاني حيث تحولت المقاومة المشروعة ضد الإحتلال إلى إرهاب دولى يجب ضربه وملاحقة عناصره وتقتلهم أو الذج بهم في السجون. وقد نلحق بهذه الميادين الميدان النيجيرى حيث تعرض المسلمون لموجات من الكراهية والعنف الصليببى لمدة سبعة عشر عامًا وسنتعرض لهذا الموضعه في موضحه من هذه المقالة بإذن الله تعالى

       هذا، ويجدر الإشارة إلى حقيقتين مهمتين بهذا الصدد، الأولى أن مثل هذه الحرب ما كان لتقوم ، أو على الأقل ما كانت شراستها لتصل إلى هذا الحد، لولا دور المنافقين المندسين في صفوف الأمة والذين يساعدون الأعداء دائما على إقتحام قلاع المسلمين وفتح حصونها الحصينة . الحقيقة الثانية أن الأمة برغم ضعفها وخذلان بعض ابنائها لها لم تكن قط لقمة صائغة أمام أعدائها بل كان أبناؤها المخلصون في كل معركة يسجلون عبارات الشرف بدماءهم الزكية الطاهرة ومواقفهم الشريفة النبيلة. فبطولات “توربور” في أفغانستان مثلا وملحمة الفلوجة في العراق تذكرنا ببشارة نبينا عليه الصلاة والسلام أنه لا يزال الخير في هذه الأمة إلى قيام الساعة. وقد قام الجهاديون في كل موطن لقوا أعدائهم بما يضيق المقام عن وصفه من الأعاجيب مما أدخل الرعب في قلوب أعداء الله وجعل شباب الكفار المترفين يختارون الإنتحار بدلا من مواجهة المسلمين

 

حرب المؤسـسات

       بدأت الحرب ضد المؤسسات الإسلامية في الولايات المتحدة بسنوات عدة قبل أحداث سبتمبر ٢٠٠١م واتخذت الحرب اشكالا منها التعامل العدواني الإنتقامي من قبل الإدارة الأمريكية تجاه كوادر ومؤسسات الجالية العربية والإسلامية الناشطة بفعل ضغط دوائر الجماعات السياسية الصهيونية النافظة وسن قوانين مجحفة وقمعية لتمرير مخططات التضييق والتجريم ضد الدعوة الإسلامية وآخر هذه القوانين سنا قبل هجمات سبتمبر قانون الأدلة السرية (Secret Evidence) الصادر عام ١٩٩٥م الذى يسمح للمخابرات والسلطات الأمنية الأمريكية بملاحقة واعتقال أى شخص يشتبه فيه من طرف هذه الأجهزة لسبب أو لآخر ، للزج به في السجن دون أن يسمح لأحد بالإطلاع على قائمة الإتهامات أو المعلومات إن وجدت، والإكتفاء بالمقولة المطاطية “تهديد الأمن القومى ” و “مصلحة الشعب الأمريكى”. وبذلك تمَّ استهداف مؤسسات العمل الإسلاميى بمختلف واجهاته وأشكاله، بدءا ببث الرعب والذعر بين أبناء الجالية لصرفهم عن التجاوب والتفاعل الإيجابى مع هذه المؤسسات ، إلى وضع هذه المنظمات تحت المراقبة والعمل على إظهارها بشكل مخالف للقانون، ووصولا إلى تجفيف منابع الدعم البشرى والمالى الذى كانت وما تزال تحظى به هذه المؤسسات في أوساط الجالية العربية والإسلامية.(3

       وبعد أحداث سبتمبر ٢٠٠١م إتسعت دائرة هذه الحرب لتشمل تقريبا جميع دول العالم وخصوصا دول الشرق الأوسط وأوربا حيث بذلت أمريكا أقصى جهدها لإقناع الدول بصلة المؤسسات الإسلامية – ولاسميا الخيرية منها – بما يسمى بالإرهاب الدولى ومن ثم الضغط على هذه الدول لملاحقة المؤسسات والناشطين فيها بهدف تقليصها وتجفيف منابعها

       ولكن لماذا تصر الولايات المتحدة على محاربة المؤسسات الخيرية الإسلامية تحت ستار “مكافحة الإرهاب”؟ الجواب أولا يكمن في أهمية العمل الخيرى ودور المؤسسات الخيرية. فمؤسسات العمل الخيرى من أهم مقومات نجاح الإدارة للدولة الحديثة ، حيث أصبح العمل الخيرى عند دول الشمال وبعض دول الجنوب والأمم المتحدة القطاع الثالث من قطاعات التنمية ، وهي أحد خطوط الدفاع الأولى للدول والأمم، والإجهاز على هذا الخط الدفاعى يعتبر إجهازا على أهم قوة من القوى المساندة لأى دولة ولأى مجتمع. وثانيا إن أمريكا أصابها الهلع من المنظمات الخيرية الإسلامية، حيث تتعارض أعمالها مع الهيمنة الأمريكية العالمية، وبرامج العولمة والتغريب

       وتستعمل الولايات المتحدة مختلف الوسائل للتعامل مع المؤسسات الإسلامية على عدة أصعدة منها

(1)   وقف تدفق الأموال من خلال تجميد أرصدة المؤسسات الخيرية التى تدعم الأعمال الدعوية أو المنظمات الجهادية التى تحارب الإستعمار مثل “حماس” و “الجهاد الإسلامى ” في فلسطين

(2)         التحقيق في أعمال إساءة إستخدام المؤسسات الخيرية

(3)         العمل مع دول العالم للمساعدة في رفع مستوى معايير الرقابة والمحاسبة الخيرية

ففى إطار سعيها لتجفيف مصادر تمويل المنظمات الإسلامية تقدم السلطات الأمريكية طلبا رسميا إلى المنظمات والمؤسسات عبر وزارات الخارجية للدول التى تتواجد فيها بقصد الحصول على وثائق وبيانات مالية وقيود حسابات بسب الإشتباه فيكون المبالغ التي تجمعها وتوزعها تساهم في تمويل أنشطة منظمات إرهابية على حد زعم الولايات المتحدة. وعلى هذا الإطار ثم ملاحقة ومضايقة كثير من المنظمات الخيرة الإسلامية والمؤسسات التجارية مثل جمعية إحياء التراث الكويتية التى حددت السلطات الأمريكية مكتبها الباكستاني والأفغاني كهيئة داعمة للإرهاب، كما فعلت ذلك مع مؤسسة الحرمين الإسلامية في الصومال والبوسنة .(4) كما تمّ تجميد أموال هذه الهيئات وغيرها مثل مؤسسة الأراضى المقدسة للإغاثة والتنمية و”صندوق الرشيد” ومؤسسة “وفا” الإنسانية و “أمة تعمير النور” وغيرها.(5

       كما بذلت الولايات المتحدة جهودا جبارة في محاولة لمحاصرة المؤسسات الخيرية الإسلامية في أنحاء العالم. وفي هذه الجهود ذهاب وفد أمريكى إلى الخليج لوضع آلية الإشراف على الجمعيات الخيرية ومداهمة المخابرات الأمريكية والباكستانية مكاتب منظمة الإغاثة في مدينة “بيشاور” وحضور وزير الخزانة الأمريكى إلى الخليج لمناقشة التمويلات الخيرية ، وبدء حـملة أوربية – بايعاز من أمريكا – لـملاحقة الجمعيات الفلسطينية في ألمانيا وغيرها.(6

حرب القيم والأخلاق

       شهدت الساحة الثقافية الإسلامية في العقود الأخيرة تدافعا بين التيارات الداعية إلى علمنة المجتمع وفصل الدين عن الدولة، بتسويغ الحداثة والإنخراط في العالمية الإقتصادية والثقافية، بعيدا عن القيود الدينية، وبين التيارات الداعية إلى التمسك بأصول الهوية الإسلامية، والإنفتاح الموزون على التجارب العالمية الإيجابية، والتى تستوعيها مقاصد الشريعة الإسلامية بما تكلفه من رقى حضارى بمختلف أشكاله إعتمادا على مبدأ الإستخلاق

       واستعملت الدول الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة وكذلك الأمم المتحدة أساليب الترغيب والترهيب في محاولة التأثير على الحياة الإسلامية وعلمنتها وخصوصها في جانبها الإجتماعى وعلى الأخص في جانب الأسرة باعتبارها معقل القيم الإسلامية. وكان الهدف وراء هذه الحرب، كما يقول الدكتور سفر الحوالى، “نشأة جيل مقطوع الصلة بدينه، مفتون بالغرب وتياراته الثقافية المختلفة التى تتفق في شىء واحد هو تحللها من الإلتزام بالدين”. (7)

       دارت الحرب على هذه الساحة لمدة طويلة كانت الولايات المتحدة تحمل فيها العصى والغزرة، فكانت تارة تلوح بهذه وتارة بهذه حتى جاءت أحداث سبتمبر 2001م فأطلقت أيدى أمريكا الآثمة فألقت الغزرة ورفعت العصى وهددت بالويل والثبور وعظائم الأمور لكل من يقول “لا” للعلمنة والعولمة والغطرسة والهيمنة الامبريالي

       واتهجت عناية الولايات المتحدة إلى التربية ومناهج التعليم والمؤسسات العلمية والمعرفية. واستهدفت إستفراغ المناهج من مضمونها العقدى والمعرفى والاجتماعى والنفسى واستبدال هذه الأسس بأسس أخرى لا صلة لها بالإسلام وتعاليمه وقيمه ومبادئه

       وتدور الهجمة على المناهج في محورين أساسيين: المحور الأول المدارس والمعاهد الشرعية. وجاءت على رأس هذه القائمة المدارس الإسلامية في باكستان، باعتبارها المصدر الذى خرجت منه “طالبان”. ثم المدارس العامة في كل من مصر وتونس واليمن وفلسطين والمملكة العربية السعودية وغيرها. وقد خصصت الولايات المتحدة الأموال الطائلة لهذا الغرض. فمثلا، قدمت الحكومة الأمريكية دعمًا لباكستان مقداره 100 مليون دولار لبناء ” بنك” معلومات عن طلاب المدارس القرآنية يـهدف لتأمين معلومات أساسية عن كل طالب ومدرس في هذه المدارس. ومن أهداف البرنامج أيضا الرقابة على منشورات هذه المدارس ودور النشر التابعة لها.(8

       المحور الثاني المقرَّرات الشرعية التى يدرسها طلاب التعليم العام، على أساس أن الكم الذى يدرسه الطالب من العلوم الشرعية يفوق إحتياجاته (!) حسب رأى المسئولين الأمريكين ، ويسهم في تغذية روح التدين، كما أن محتوى هذه المناهج يحوى ما يغذى التطرف والإرهاب

       هذا، ومن أبرز موضوعات الحديث عن المناهج ما يأتى

(1)   الصراع العربى الإسرائيلى: إرتبط الحديث عن ضرورة تغيير المناهج بالصراع العربى والإسرائيلى إرتباطا وثيقا، وفي جميع مشروعات السلام كان اليهود يطالبون بمراجعة المناهج وإزالة كل ما يؤدى لغرس الكراهية فيهم، ويعكر على مسيرة السلام والمصالحة

(2)   أعمال العنف في الدول العربية: أدى إنتشار أعمال العنف في بعض الدول العربية إلى المطالبة بمراجعة مناهج التعليم، وقد أجريت دراسات عدة وعقدت ندوات ومؤتمرات للبحث عن مدى صلة مناهج التعليم بالإرهاب. ونادى عدد من التربويين إلى تنقية المناهج من كل ما يغذى الإرهاب ويزيد جذوته. وقطعت حطوات عملية في ذلك، ففي الجزائر مثلا أصدر وزير التربية قرارا بحذف بعض النصوص مثل أحاديث الترهيب بعذاب القبر وفقه الجهاد

(3)   الأقليات المسلمة : تعانى كثير من الأقليات المسلمة من مضايقات وانتهاك لحقوقها في التعليم، وتفرض كثير من الحكومات قيودا صارمة على التعليم الدينى شعورا منهم بمخاطره حسب زعمهم. فعلى سبيل المثال شددت السلطات الصينية الرقابة على التعليم الإسلامي في إقليم “سينغيانغ” ذى الأغلبية المسلمة تحت ستار إصلاح وتوحيد الفصول الدراسية لتأهيل الأئمة المحليين

ولكن ما هو هذا التطرف الذى يكمن في المناهج الإسلامية والذى من أجله تسهر الحكومات وتتحرك الجيوش وتدار عجلة الدبلوماسية العالمية؟ هذه نموذج منها

(1)   تكفير غير المسلم. على المسلم أن يؤمن بجميع الأديان ولا يعتبر معتنقى غير الإسلام كفارًا وإلا كان متطرفا إرهابيا

(2)   الولاء والبراء. من الواجب على المسلم أن يكون مخلصا للآخر (!) وأن يحب جميع الناس صديقهم وعدوهم ولا يفرق بينهم، والا كان إرهابيا متطرفا

(3)   الجهاد في سبيل الله. على المسلم أن ينسى “فقه الموت ” على حد تعبير القوم، فيفتح بابه للمحتلين والمغتصبين لأرضه، فلا يقاوم ولا يكافح وغلا فهو متطرف إرهابى

(4)   أحكام الزواج والأسرة. تقول إحدى الكاتبات في صحيفة “نيويورك تايمز” : “هل نتصور أن المرأة في السعودية ليس من حقها أن تتزوج على زوجها، في الوقت الذى يتزوج الزوج عليها؟”(9) ما هذا الإجحاف بحق المرأة وإلى أين يأخذنا ضيق الأفق والرجعية الإرهابية؟ ثم تطالب السيدة الكاتبة المتحضرة المتحررة ، تطالب ” السيدة الأولى” في أمريكا أن تتدخل لدى الدول العربية والإسلامية لإنصاف المرأة كما تدخلت لإنصاف المرأة الأفغانية!(10

(5)   الحجاب. إرتداء الحجاب أو الدعوة إليه مظهر من مظاهر الرجعية والتطرف والإرهاب ويجب على كتبنا المدرسية أن تتخلى تمامًا من تمجيد الحجاب والترغيب فيه

(6)   زوجات النبى صلى الله عليه وسلم. حتى في الحديث عن أخبار خير النساء وتعليم الطلاب والطالبات سيرتهن هناك ما يغزى الإرهاب ويذكيه. فيجب ألا يقدمن في الكتب المدرسية كمثال للطالبات حتى لا يصبن بداء الإرهاب والتطرف

(7)   الآيات القرآنية والأحاديث النبوية. يجب أن نتخير منها ما هو سليم من التطرف مثل آيات القصص والمسامحة والجنوح للسلم ونحو ذلك. أما آيات القتال والجهاد وكذا الأحاديث التى تربى الناشئة على العنف أو آيات أخبار اليهود التى تذكى نار الكراهية في قلوب أبنائنا ضد ” شعب الله المختار” فيجب أن تتخلى مناهجنا عنها تمامًا

هذه نماذج (11) التطرف والإرهاب التى تملؤ مناهجنا والتى يطالبنا أقطاب الديمقراطية والمساحمة والحرية أن نتخلى عنها حتى نكون في موكب الأمم المتحضرة

مما تقدم يتبين للقارئ أن التدخل الأمريكى السافر في المناهج التعليمية في الدول الإسلامية الهدف من وراءه هو التأثير على أجيال الأمة ومحاولة تغيير خصائصها ونفسيتها . وهي حرب عقيدية حول الأساس وحول القضايا الثابتة. وهى حرب تضرب في الجذور لكن العقيدة الإٍسلامية هي التى تحفظ الأمة وتقف بها صلبة أمام موجات العولمة الحديثة وأمام جيوش الحرب على الإرهاب الجرارة كما وقفت من قبل أمام موجات الحروب الصليبية والتبشير والإستشراق والإستعمار

 

حرب الإعلام والمعلومات

       إننا اليوم نعيش عصر المعلومات. وقد قيل إن المعلومات سلطة، فالذى يسيطر على المعلومات يملك سلطة مطلقة . لكن السلطة المطلقة – كما يقول علماء السياسة – مفسدة مطلقة. ويبدو أن الولايات المتحدة إمتلكت هذه السلطة فكانت المفسدة

       إن أمريكا بتقنياتها المتطورة ووسائل إعلامها العملاقة تسيطر على زمام الإعلام والمعلومات في العالم وتجند كل طاقاتها الإعلامية والمعلوماتية الهائلة في محاربة الإسلام والدعوة الإسلامية والصحوة الإسلامية. وبعد أحداث سبتمبر، تطورت الحملات الإعلامية وتنوعت وكثرت كما تنوعت أهدافها وكثرت فشملت الدول والمؤسسات والمنظمات والأفراد. فعلى سبيل المثال ارتفع عدد المقالات التى نشرت عن المملكة العربية السعودية في هذه الفترة بالمقارنة بما نشر قبل ذلك. فمتوسط عدد المقالات التى نشرت عن السعودية شهريا في عام 1999م كان 272 مقالا في الشهر مقارنة بـ 235 مقالا في الشهر عام 2000م . أما في عام 2001م فقد وسل متوسط المقالات شهريا إلى ما يزيد عن 1300 مقال شهريا، أى بزيادة تبلغ أكثر من 4 أضعاف الأعوام السابقة. وبلغ عدد المقالات عن الإسلام في السعودية أكثر من 14,639 مقالاً خلال عام 2001م ، مقارنة بما يقرب من 2900 مقال في العام السابق، أى بزيادة تتعدى 400 %. (12

       وهناك نوع خاص من الإعلام الأمريكي الذى يستهدف الإسلام وهو الإعلام الدينى أو ما يعرف بالكنائس المرئية وهى عبارة عن المحطات التلفزيونية بلغ عددها إلى الآن حوالى 1500 محطة في طول الولايات المتحدة وعرضها تبث برامج دينية لحوالى 67 مليون مشاهد على مدار الساعة .(13) ومعظم هذه المحطات تمتلكها منظمات مسيحية صهيونية متطرفة تكن للإسلام والمسلمين العداء الشديد ولإسرائيل الولاء اللامحدود. هذا إلى جانب دور السينما وما تقوم به الشركات السينمائية من إخراج أفلام تشوه الإسلام وتبث الأكاذيب ضد المسلمين وتضلل الرأى العام الأمريكى خاصة والعالمى عامة حول قضايا المسلمين الحيوية

       وبعد، فهذه بعض الميادين التى تدار عليها حرب أمريكا – ومعها حفلاءها – على الإسلام وهي حرب ضروس كالحة لا يتقيد فيها العدو بأى قيود لا دينية ولا شرعية ولا أخلاقية ولا إنسانية . ولكن هذا لن يثنى من عزم المجاهدين الصابرين الواثقين بوعد الله بالنصر والتمكين

وجاء دور المنافقين

       لقد قسم العلامة القرضاوى الذين يحكمون بلاد المسلمين إلى قسمين: القسم الأول الحكام المرتدون الذين انسلخوا من أمتهم كما تنسلخ الشاة من جلدها، ومرقوا من دينهم كما يمرق السهم من الرمية . وهؤلاء كالشيوعيين الأقحاح والعلمانيين الصرحاء الذين اعتبروا الدين معوقا للأمة أو مخدرا للشعوب. فهؤلاء مفروغ منهم وليس بينهم وبين الأمة إلا السيف

       القسم الثانى: الحكام المنافقون الذين يدعون الإسلام، ويعلنون أنهم مسلمون ، وقد تراهم في المسجد مصلين أو في رمضان صائمين، أوفي مكة حجاجا أو معتمرين. ولكن مشكلتهم الجوهرية مع الشريعة وأحكامها، فهم يقبلون الإسلام عقيدة ولا يرضونه شريعة، يؤمنون به دعوة ولا يؤمنون به دولة، فلا علاقة للدين عندهم بالسياسة ولا بالإقتصاد ولا بالثقافة ولا بالإجتماع.(14

       ولقناعة هؤلاء بأن الإسلام دين فحسب، فهم يحكون الأمة بكل نظام وبكل منهج إلا الإسلام. فهم يحكون باسم القومية العربية أو الإشتراكية الثورية، أو الرابطة الوطنية أو البعث العربى، أو اليسار التقدمى أو اليمين الليبرالى أو الديمقراطية الرأسمالية أو بكل شىء توحى به إليهم شياطينهم أو تسوله لهم أنفسهم. وعلى الرغم من إختلافهم هذا الشاسع فهم يجمعهم شىء واحد وهو كراهية ما انزل الله، والتبعية العمياء للغرب، والمكر والعداء لأمتهم

       ففي الجولات الأولى من الحرب الصليبية القائمة لم تستطع أمريكا أن تنجز شيئا من أهدافها المعلنة في أفغانستان ولا في العراق ولا غيرها إلا بمعونة هؤلاء المنافقين. وقد سجلوا على أنفسهم مواقف مخجلة وتصرفات مزريه اقبلوا على إرتكابها منذ بدء الحرب الظالمة. خذ مواقف الحكومة العسكرية في باسكتان مثلا، فإن عرضا للإجراءات التى اتخذتها حكومة “برويـز مشرف” نيابة عن أمريكا لتزيدنا يقينا بأن الأمريكيين قد وجدوا في بلاد المسلمين من يتبرع لهم بأكثر مما يطلبون. فبعد تسخيره أجواء باكستان وقواعدها لعمليات الحملة الصليبية على أفغانستان، أقبل”مشرف” الذى لا شرف له على اعتقال نحو 2000 من نشطاء وزعماء الجماعات الإسلامية الباكستانية والكشميرية ، وحظر نشاط خمسة أحزاب إسلامية ، هى الوحيدة التى تحمل برنامجا إسلامايا من بين نحو خمسة وعشرين حزبا. وتم إغلاق 137 مكتبا من مكاتب جماعات الجهاد في كشمير وأصبح الجهاد لتحرير الأراضى الكشميرية من الاستعمار الهندوسى عملا إرهابيا كما تحول المجاهدون بين عشية وضحاها إلى إرهابيين إرضاء للكفار. ولم يتوقف “مشرف” إلى هذا الحد، بل جره شرفه الذى لا حدود له إلى القيام بعملية “تطهير” في الجيش الباكستانى من العناصر المتدينة فأخرج عددا من الضباط والقادة العسكريين من الخدمة ليبقى الجيش لا دينيا. ثم قام بتسليم الإسلاميين المتعاطفين مع محنة أفغانستان إلى السلطات الأمريكية بداً بيد، كما تووَّج أعماله “المشرفة ” حينما رفض إعطاء السفير الأفغانى السابق لدى باكستان “عبد السلام ضعيف” حق اللجوء بل سلّمه للأمريكيين مخالفا بذلك كل القيم والأعراف المعترف بها لدى الأمم المتمدنة.(15

       وهكذا كانت الأمورفي أكثر بلاد المسلمين إذ إستجاب الحكام المحليون لمطالب أمريكا دون تردد، وتسابقوا في التبرع بالخدمات من جمع المعلومات عن المواطنين ورصد تحركات الناشطين واعتقال المشتبه بهم وتسليمهم إلى السلطات الأمنية الأجنبية بل والقيام بحملات التفتيش والمداهمات وشن الغارات على المواطنين الآمنين في بيوتهم وقتلهم وهتك حرماتهم كل ذلك إرضاء للسادة الكفار كما حدث في المملكة العربية السعودية واليمن والأردن وإيران وغيرها

       ولم يقتصر الأمر على الأنظمة والحكومات بل شمل هيئات ومنظمات ومنابر، وكذلك شخصيات ثقافية وصحافية تخرج على الأمة كل حين بكلمات تكتب بمداد من السم لا تهدف لشىء إلا لإشاعة الإحباط واليأس والنفور من كل شىء يتعلق بالعمل الإسلامي والأمل الإسلامى بنصرة الإسلام وانتصار أهله

       ومن الفئات المنافقة المندسة في صفوف المسلمين “جماعة الشياطين الخرس” من العلماء والمتعالمين الرسميين الذين آثروا السكوت في وجه الفتنة العمياء أو الثرثارين من “صناع الفتاوى ” الذين لا يترددون في إصدار فتاوى على وفق هوى الحكام لخدمة أهداف المنافقين وأسيادهم من الكفار المحاربين. ومن مجالات إختصاص هؤلاء تزكية الحكام وإطرائهم والإشادة بمنجزاتهم وتسويغ أعمالهم وإظهارهم بمظهر الوطنيين المخلصين والأئمة المهديين، وهكذا يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون

 

تداعيات أحداث سبتمبر على مسلمى نيجيريا

       شهدت السحة النيجيرية موجة من العنف والكراهية ضد المسلمين في العقدين الأخيرين حيث تم إقامة مجازر للمسلمين في ولايات “كدونا” و “بوش” و “بلاتو” و”آدماوا” وغيرها من ولايات الشمال. كما تعرض المسلمون لأعمال العنف والقتل والمضايقات الإقتصادية والأمنية في كل من الجنوب الغربى والجنوب الشرقى للبلاد

       وشهدت المجزرة الأخيرة ضد المسلمين في ولاية “بلاتو” هذا العام تطورا خطيرا حيث تم أسر مئات المسلمات بعد قتل أزاجهن وذوى هن ونقلهن كأسيرات حرب إلى قرى المسيحيين حيث يغتصبن ويطعمن لحم الخنزير ويسقين الخموز، كما حدث تماما في حرب “البسنة والهرسك” في التسعينات حيث تم إغتصاب أكثر من خمسين ألف سيدة وفتاة مسلمات. وهذا نوع جديد ومتطور جدا من أنواع الأسلحة إبتكرته العبقرية المسيحية اللاَّأخلاقية واتفق عليها نصارى أوربا المتحضرون(!) ونصارى وسط نيجيريا الذين لا يزالون يعيشون في عصر ما قبل الحضارة. وهذا الأسلوب ينم عما يكمن في قلوب القوم من الكراهية والوحشية والنذالة وقصد إذلال المسلمين وكسر إرادتهم

       ومنذ أحداث سبتمبر 2001م حاولت جهات لصق تهمة الإرهاب بمسلمي نيجيريا ، فحينما وقعت فتنة مع شباب أطلق عليهم إسم “طالبان” في ولايتى “بورنو” و “يوبى ” أواخر العام الماضى سارعت السلطات الأمنية الفدرالية إلى التدخل بقوة حاسمة فقتلت عددا من الشباب واعتقلت آخرين وأرجفت الصحف المعروفة بعداءها للإسلام بأن خلايا إرهابية تعمل في شمال البلاد، وبعد بحث وتحقيق ثبت أنها مجرد دعوى وإشاعات.(16

       ثم تكلم بعض أعداء المسلمين من النصارى المتطرفين مثل حاكم ولاية “بلاتو” السابق المدعو “داريى” المعروف بتطرفه وأصوليته وعداءه الشديد للمسلمين فقد نادى مرارا بتطهير المسلمين عرقيا من ولاية “بلاتو” حين كان حاكما عليها. (17) وحاول في حملاته ضد المسلمين لصق تهمة الإرهاب بهم وأكد أن شباب المسلمين الناشطين في الدعوة هم على صلة وثيقة بتنظيم القاعدة وتجرى بينهما إتصالات على مستويات متعددة

       ويبدو أن الحكومة الفدرالية أصغت لمثل هذه الأصوات إذ لوحظ أن أجهرة الأمن والمخابرات الفدرالية تقوم في الآونة الأخيرة بملاحقة بعض المنظمات الإسلامية والأفراد من الناشطين في الدعوة الإسلامية والأعمال الخيرية. وفي هذا الإطار تـمَّ إعتقال بعض الدعاة في ولاية “كانو” وتم إعلاق مكتب نيجيريا لمؤسسة “المنتدى الإسلامى ” الذى مقره في “كانو ” أيضا. (18

       ولاشك أن لدول الكفر العظمى مطامع وأغراض في نيجيريا منها وقف إنتشار الإسلام في إفريقيا ومحاصرة نفوذه في الحياة السياسية والإقتصادية للقارة. فقد أصبحت نيجيريا القاعدة الأولى والمحطة العظمى لإنتشار الإسلام في القارة السوداء بحكم تاريخها العريق في الإسلام وصلتها بالعالم الإسلامي حضاريا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا. وقد وقف المسلمون سدا منيعا أمام الزحف الثقافى الغربى إذ رفض المسلمون النيجيريون الثقافة الغربية وما فيها من الإباحية والإنحلال الخلقى والتحلل من القيود الدينية والأخلاقية. ويعد هذا تحديا قويا أمام الهيمنة الإمبريالية الأمريكية ومطامعها التى تستهدف خيرات البلاد

       وما زالت دول الإستعمار والإستكبار العالمى تخطط للسيطرة على زمام الأمور في نيجيريا بقصد إضعاف موقف المسلمين ومحاصرة نفوذهم السياسى والإقتصادى وتمكين الكفار من النصارى والوثنيين عن طريق التغلغل السياسى واستعمال السياسة الإستعمارية القديمة: فرق تسد. وقد قطعت هذه القوى شوطا بعيدا وحققت الكثير عن طريق إشعال الفتن بين مختلف القبائل والطوائف الدينية والفئات المختلفة وتفريق كلمتهم ولاسيما بين مسلمى الجنوب ومسلمى الشمال. ومما يؤسف له حقا في هذا المنوال أن مسلمى جنوب نيجيريا ولاءهم دائما مع إخوانهم في القبيلة والذين هم كفار إما من النصارى وإما من الوثنيين. فاليرباويون الذين غالبيتهم العظمى مسلمون ما يزالون تحت قيادة الكفار من بنى جلدتهم. وعندما هلك زعيمهم ” أوبافيم أوولو” كان وزيره الأول وخليفته”عبد اللطيف جكندى” هو المرشح للزعامة والقيادة في إقليم الجنوب الغربى، لكن لسبب ضعف المسلمين اليرباويين وتسليمهم للكفار تم إقصاء “جكندى ” عن مركز القيادة، ولا تزال زعامتهم وقيادتهم في أيدى الكفار. وهذا من أسباب ضعف المسلمين في نيجيريا إذ لم يستطيعوا أن يجمعوا كلمتهم ويوحدوا صفوفهم عبر الفوارق الإقليمية والعرقية والقبلية

       وبقدر ضعف المسلمين وفشلهم في تحقيق وحدتهم، قوى الكفار وزاد نشاطهم واستمروا في تنفيذ مخططاتهم للسيطرة على البلاد. ومن الأدلة الواضحة على ذلك هذه الحكومة الفدرالية الحالية تحت قيادة ” أوباسنغو” فهى حكومة صليبية حاقدة هدفها الأول إضعاف المسلمين سياسيا واقتصاديا وتمكين النصارى ليتبوأوا مركز القيادة للأبد. وتساند هذه الحكومة قوى الإستعمار والإستكبار العالمى والهيمنة الإمبريالية

       وقد اتخذ التدخل الأجنبى في حياتنا بعدا جديدا خطيرا بتأسيس قواعد عسكرية أمريكية على حدود بلادنا. فمنذ شهور أفادت تقارير وكالات الأنباء العالمية أن الولايات المتحدة قد أكملت الإجراءات اللازمة لفتح قواعد عسكرية في “خليج غينيا” على شواطئ عدد من دول غرب إفريقيا وذلك تمهيدا لبسط سيطرة أمريكا على هذه البلاد ونهب خيراتها وثرواتها ولاسيما “النفط “لأن أمريكا فقدت سيطرتها على نفط الخليج الفارسى فهى تريد أن تعوضه بنفط “خليج غينيا”(19

       وبناء على ما تقدم نستطيع أن نقول إن الساحة النيجيريا أصبحت من ميادين حرب أمريكا على الإرهاب، أو بالأحرى، حرب أمريكا على الإسلام. فالمسلمون في نيجيريا هم ضحايا الإرهاب المسيحى الحاقد، وهذا الإرهاب مهما يكن سببه فإنه بلا شك يحظى بمساندة أجنبية ولو من باب السكوت . فإن منظمة “تجمع أبناء أودوا” OPC الناشطة فى الجنوب الغربى للبلاد والتى قامت بتنفيذ مجازر ضد المسلمين في السنوات القليلة الماضية قد تم تصنيفها ضمن المنظمات الإرهابية ولكن ما تزال تواصل نشاطها دون أى إعاقة من السلطات الأمنية الفدرالية. ولم يثبت إعتقال أحد من قياديي المنظمة المعروفين على الرغم من كون المنظمة قامت بقتل آلاف الأبرياء بينما يعتقل أشخاص لم يقتلوا ذبابا وتحل منظمات لم تثبت ضدها أى جريمة . فيجب على المسلمين أن يكونوا على مستوى التحدى “والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون

الخاتمة: وعند الله مكرهم

       الأزمات في حياتنا فرص، والمحن منح. وقد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت * ويبتلى الله بعض القوم بالنعم

       إن الأزمات التي نتجت عن أحداث 11 سبتمبر 2001م هى تحد للأمة الإسلامية، تحد متعدد الإتجاهات ومتعدد الضربات ومتعدد الأبعاد. وهو بالرؤية الإسلامية الشرعية إبتلاء. وهو إبتلا شديد ولاريب، لكنه ربما لم يكن بالأشدفي تاريخ المسلمين. فهم قد تعرضوا لابتلاءات شديدة وكبيرة ربما فاقت ما حدث ويحدث بعد أحداث سبتمبر

       وبعيدا عن الجدل الدائر في أسباب حادث 11 سبتمبر، وهل كان بتخطيط وتدبير من الملأ الصهيونى في الحكومة الأمريكية مكرا وكيدا، أم أنه بتخطيط وتنفيذ المجاهدين في أفغانستان، فهناك حقيقة يتفق عليها المسلمون وهي أن هذا الحادث هو إنذار من الله تعالى لدولة الكفر والعناد، وكسر لطغيانهم وجبروتهم، وبداية لهزائم متعددة: سياسية وعسكرية واقتصادية وأخلاقية، كما قال تعالى ” وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا متر فيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرنا ها تدميرا

       ومهما يكن من أمر، فإن حرب أمريكا على ما أسمته بالإرهاب لاشك أنها حرب شاملة على الإسلام: عقيدته، وقواعده، ومناهجه، وشعوبه، ومؤسساته، وصحوته، ومستقبله … هي حرب شاملة. إن الكفار يخططون ويمكرون ……… وعند الله مكرهم. هم يمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين. وإن مؤشرات مكر الله بهم بدأت تظهر للعيان ومنها: وقوع الإختلاف والتفرق داخل المجتمع الأمريكى من جهة، وبينهم وبين بنى قومهم من الأوربيين من جهة أخرى. وقد بدأت الحرب الباردة بين أمريكا وأوربا متمثلة في قطبيها: ألمانيا وفرنسا، ولا تلبس هذه الحرب أن تكون ساخنة ثم طاحنة بإذن الله. ومنها أيضا تبين ظلمهم الواضح، وبغيهم، وعلوهم في الأرض، وتسلط الملأ منهم وتجبرهم على الشعوب المستضعفة، وهذا بلا شك مؤذن لهم بعذاب من الله، كما قال سبحانه : “وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا، وكنا نحن الوارثين

       ومن المؤشرات أيضا عزلتها الدولية، ووقوف أكثر دول العالم ضدها، وبروز قوى مناهضة لها صراحة مثل ألمانيا وفرنسا حتى إن شعوب أوربا صرحوا في إستفتاح عام أجرى هذا العام بان أمريكا وإسرائيل هما أكبر خطر على سلام العالم. ومنها إزدياد الحمية الإسلامية في قلوب شعوب العالم الإسلامي، وتقاربهم في الرأى ، ولجئهم إلى الله، ودعوتهم إلى الدين الحق، وهذا من أسباب نصر الله لهذه الأمة وخذلان أعدائها من الكفار والمنافقين. ومنها ظهور إنكسار اصحاب القلوب المريضة من الذين يسارعون في تولى الكافرين، وخوفهم الشديد من مغبة نفاقهم حتى أصبح بعض من كان بالأمس يسبح بحمد أمريكا يلعنها اليوم ويتمنى زوالها بعد أن كان يدعو إلى التبعية لأمريكا بلد الحرية والمساواة !! ومنها أيضا ما حصل في عدد من الدول الإسلامية من تقدم للحركات الإسلامية – على رغم أنف الولايات المتحدة – وخاصة في تركيا والباكستان والمغرب

       ومن المؤشرات أخيرا إنهيار القاعدة الأخلاقية التى كانت تنادى بها أمريكا، وتدى بها أنها الزعيمة الأخلاقية للعالم، إذ سقط القناع وظهر لكل ذى عينين الوجه البشع القبيح لأمريكا وخصوصا في حروبها الوحشية وهجماتها البربرية في كل من أفغانستان والعراق وكذلك في معاملتها للأسرى والمعتقلين وخصوصا في سجن “أبو غريب” ببغداد. وهذا من مكر الله بهم. وصدق الله العظيم إذ يقول ” قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون”


 

الهوامش

(1)   يوسف القرضاوى ، أعداء الحل الإسلامي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط أولى 1421هـ / 2000م ، ص 47 – 48

(2)   أرنولد توينبى، تاريخ البشرية، ترجمة د. نقولا زيادة، المكتبة الأهلية للنشر والتوزيع – بيروت   ، ط ثانية، 1988م ج 1 ، 372 وما بعدها. ويراجع أيضا: محمد السماك، الصهيونية المسيحية، دار النفائس – بيروت ، ط ثانية ، 1413هـ ، ص 37 – 40

(3)   محمد بن عبد الله السلومى ، القطاع الخيرى ودعاوى الإرهاب، إصدار مجلة البيان، لم يذكر موضع الطبع، ط أولى، 1424هـ ، ص 137 نقلا عن مجلة “الصراط المستقيم” الأمريكية

(4)         المصدر السابق، ص 241 – 254

(5)         تراجع “مجلة البيان” ، العدد 191، رجب 1424هـ / سبتمبر 2003م، ص 105

(6)         المرجع السابق ، ص 106

(7)   سفر بن عبد الرحمن الحوالى، العلمانية : نشأتها وتطورها، دار ابن الجوزى، الرياض (المكلة العربية السعودية) ، 1998م، ص 596

(8)   راجع مقال محمد بن عبد الله الدويش بعنوان ” هل لمناهجنا صلة بالتطرف والإرهاب، ” في “مجلة البيان” العدد 173، المحرم 1423هـ / مارس 2002م، ص 30

(9)         نقلا عن “مجلة البيان” المصدر السابق ، ص 32

(10)المصدر نفسه

(11)راجع هذه النماذج بشئ من التبسيط في مقال محمد بن عبد الله الدويش المشار إليه في الهامش رقم (8

(12)محمد بن عبد الله السلومى، المصدر السابق، ص 373 – 374

(13)المصدر نفسه ص 394

(14)يوسف القرضاوى ، المصدر السابق، ص 139 – 140

(15)يراجع لذلك مقال د . عبد العزيز كامل بعنوان ” رايات النفاق والحرب المعلنة على الإسلام” في “مجلة البيان” العدد 173 ، المحرم 1423هـ / مارس 2002م ص 82

(16)يراجع صحيفة   Weekly Trust السنة السادسة، العدد 50،   3 – 9 يناير 2004 م ص 1 – 3

(17)صحيفة Weekly Trust السنة السابعة، العدد 25،   5 – 11 يونيو 2004م ، ص 1 – 7

(18)لتفاصيل اعتقال هؤلاء الأشخاص وإغلاق المكتب، راجع صحيفة Weekly Trust السنة السابعة، العدد 29 ، 10 – 16 يوليو 2004م ص 1 – 7

(19)للوقوف على تفاصيل مطامع أمريكا في نفط منطقة غرب إفريقيا – وفي نفط نيجيريا على وجه الخصوص – تراجع صحيفة Weekly Trust السنة السابعة، العدد 30 ص 1 – 6

 

 

 

حكم الشرع في أكل لحوم الخيل

 

 

 

 

عمر محمد لبطو

مركز الدراسات الإسلامية

جامعة عثمان بن فودي

صكتو

 

 

مقدمة

     إننا نمر بظروف اقتصادية صعبة وأوضاع سياسية قلقة لا تعرف السكون والاستقرار. ويرجع هذا إلى أسباب كثيرة مختلفة منها تداخل أيد خبيثة في حياتنا من اليهود والمستعمرين والمتطفلين لهم ممن تثقفوا بهذه الثقافة المشؤومة اللادينية. ونتيجة لإبتعادنا عن شريعة ربنا واستبدالها بنظم وضعية جاهلية غير ربانية. فأصبحنا في فقر اصطناعي فرضه علينا أعدائنا الذين أصبحت ثرواتنا في أيديهم يتصرفون فيها كما يشاءون. لذلك فنحن الآن في أشد الحاجة إلى أن نصون ما بأيدينا من الرزق وأن نكون أبعد من الإسراف والتبذير

     هذا، وإن من مظاهر التبذير عندنا أننا نضيع الأموال الطائلة في الخيل التي نستوردها ونرعاها لنستعملها في أغراض مختلفة ثم بعد ذلك ندعها لتموت وتصير جيفا دون أن نستفيد من لحومها ولا ألبانها ولا إهابها ولا أصوافها ولا أوبارها ولا عظامها ولا حوافرها. وكل ذلك حلال أحله الله ورسوله. ففي عدم الإنتفاع به إسراف وتبذير والله تعالى يقول: (ولا تبذر تبذيرا. إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا).(1

     ومن أسباب هذا التبذير الجهل بكم الشرع في أكل لحوم الخيل وجمود بعض العلماء على تقليد المذاهب وفرار الشعب المتخلف من كل جديد في العلم والدين والحياة

     وقد رأيت أن أكتب هذا البحث المتواضع علني أوفق إلى إزالة هذا الغطاء الغليظ من الجهل واجتيال العلماء عن هذا الموقف الجامد من التقليد الأعمى عسى أن يعود إخواننا إلى الانتفاع بهذه الثروة الحيوانية الهائلة التي طالما أتلفوها وذهبت سدي كأنها لا شيء. وبالله التوفيق

مذاهب العلماء في ذلك

     للعلماء في جواز أكل لحوم الخيل آراء، فبعضهم يرى جواز ذلك وبعضهم يرى منعه. ثم اختلف المانعون إلى من يرى تحريمه ومن يرى الكراهة فقط. وإليك تفصيل مذاهب العلماء في ذلك

1-                  مذهب المالكية

مذهب المالكية الكراهة. فقد روي عن الإمام مالك رحمه الله أنه كره أكل لحوم الخيل (2) وهل هذه الكراهة للتحريم أو للتنزيه: قولان. فهي للتحريم عند المحققين من علماء المالكية. قال الفاكهاني: “المشهور عند المالكية الكراهة والصحيح عند المحققين منهم التحريم.” (3

ونسب الحافظ ابن كثير القول بالجواز إلى الامام مالك (4) وهو خطا. وقد قال بالجواز كثير من علماء المالكية منهم الإمام القرطبى (5) والعلامة أبو بكر ابن العربي (6) والقاضي أبو بكر محمود جومي (7) وغيرهم

2-                  مذهب الشافعية

أما الشافعية فقد قالوا بإباحة أكل لحوم الخيل من غير كراهة. ونقل ذلك عن الإمام الشافعي رحمه الله (8) وعن كثير من علماء مذهبه، ولم أر منهم من خالف المذهب

3-      مذهب الحنفية

اختلفت الروايات عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى. والمشهورعنه في هذه المسألة الكراهة. ونسب ذلك إليه أكثر العلماء. (9) وصحح هذا القول الإمام أبو بكر الجصاص حيث قال: “وأبوحنيفة لا يطلق فيه التحريم وإنما يكرهه لتعارض الأخبار الحاظرة والمبيحة فيه.” (10) وممن صحح هذا القول أيضا الإمام أبوبكر الرازي قال “لم يطلق أبو حنيفة فيها التحريم، وليست عنده كالحمار الأهلي.” (11

وذكر صاحب المغني أنه حرّمها فقال: “وحرمها أبو حنيفة.” (12

هذا، وروى الجواز عنه جمع من العلماء. فهذه ثلاث روايات عن الإمام أبي حنيفة في هذه المسألة حكاها عنه الروياني كما أورده القرطبي في تفسيره. (13) وجزم المحق الآلوسي بأن مذهبه الجواز من غير كراهة، وذكر أنه رجع عن القول بالكراهة قبل موته بثلاثة أيام.(14) وعلى هذا الفتوى عند الحنيفة

4-                  مذهب الحنابلة

مذهب الحنابلة جواز أكل لحوم الخيل، وهو المنصوص عن الإمام أحمد (15). قال صاحب المغني: “وتباح لحوم الخيل كلها عرابها وبراذينها، نص عليه أحمد.” (16

ونسب العلامة الصاوي القول بالتحريم إلى الامام أحمد (17) فغلط

مما تقدم يرى القارئ الكريم أن جميع المذاهب، ما خلا الماليكية، على جواز أكل لحوم الخيل حلالا طيبا. وهذا هو الصحيح الذي يتفق مع الأدلة الصحيحة والشواهد القاطعة المروية حول هذه المسألة كما سيقف عليه القارئ عندما نأتي لعرض الأدلة إن شاء الله تعالى. وهو قول الجمهور من الصحابة والتابعين وغيرهم من سلف هذه الأمة. وممن قال به من المتقدمين سوى من ذكرنا عبد الله بن الزبير وفضالة بن عبيد وأنس بن مالك وأسماء بنت أبي بكر والحسن البصري وسويد بن غفلة والأسود وعطاء وشريح وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وحماد بن أبي سليمان وإسحاق وأبو يوسف ومحمد بن الحسن وداود الظاهري (18) وغيرهم

والواقع أن القول بجواز أكل لحوم الخيل يكاد يكون اجماعا بين الصحابة ولا يعرف بينهم خلاف إلا ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كرهه وهي رواية ضعيفة لا تقوم بمثلها حجة. قال الإمام أبو محمد بن حزم “وأما فتيا العلماء بأكل الفرس فتكاد أن تكون اجماعا على ما ذكرنا قبل، وما نعلم عن أحد من السلف كراهة أكل لحوم الخيل إلا رواية عن ابن عباس لا تصح لأنها عن مولى نافع بن علقمة وهو محهول.” (19) وممن ضعف هذه الرواية الحافظ ابن حجر، قال: “وأما ما نقل من ذلك عن ابن عباس من كراهتها فأخرجه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق بسندين ضعيفين.” (20

هذا، وقد روي عن ابن ابن عباس ما يعارض هذه الرواية الضعيفة بسند أقوى منها. قال الحافظ: “وقد أخرج الدارقطني بسد قوي عن ابن عباس مرفوعا مثل حديث جابر ولفظه: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية وأمر بلحوم الخيل.”(21) وهذا يدل على ضعف الرواية المذكورة ويزيدها وهنا على وهن، ويقوي القول بأن جواز أكل لحوم الخيل يكاد يكون اجماعا بين الصحابة. قال الحافظ: “وقد نقل الحل بعض التابعين عن الصحابة من غير استثناء أحد. فأخرج ابن أبي شيبة بإسناد صحيح على شرط الشيخين عن عطاء قال (لابن جريج): لم يزل سلفك يأكلونه. قال ابن جريج: قلت له: أصحاب محمد؟ فقال: نعم.”(22

والآن، وبعد ذكر مذاهب العلماء في هذه المسألة وبيان اختلافهم ما بين مجيز ومانع، يحسن بنا أن نعرض أدلة الفريقين ليقف القارئ عليها ويتبين له ما فيها من قوة وضعف حتى يكون على بينة من الأمر

أدلة المانعين والرد عليها

     استدل المانعون بأدلة من الكتاب والسنة والقياس. أما من الكتاب فاستدلوا بقوله تعالى: “والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومها تأكلون.”(23) وقوله: “والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة.”(24) فقالوا: الأنعام للأكل والخيل والبغال والحمير للركوب والزينة. وممن استدل بهذه الآية على المنع الإمام مالك وأبو حنيفة في رواية عنه والحكم بن عيينة وابن عباس في الرواية الضعيفة عنه.(25

     ووجه الاستدلال بالآية عندهم

أولا: أن اللام في قوله “لتركبوها” للتعليل فدل على أنها لم تخلق لغير ذلك لأن العلة المنصوصة تفيد الحصر فإباحة أكله تقتضي خلاف ظاهر الآية

ثانيا: عطف البغال والحمير عليها فدل على اشتراكها معها في حكم التحريم فيحتاج من أفراد حكمها عن حكم ما عطفت عليه إلى دليل

ثالثا: أن الآية سيقت مساق الامتنان. فلو كان ينتفع بها في الأكل لكان الامتنان به أعظم لأنه يتعلق به بقاء البنية بغير واسطة، والحكيم لا يمتن بأدنى النعم ويترك أعلاها، ولا سيما وقد وقع الامتنان بالأكل في المذكورات قبلها

رابعا: لو أبيح أكلها لفاتت المنفعة بها فيما وقع به الامتنان من الركوب والزينة

وأجاب المجيزون عن هذا الاستدلال فقالوا

أولا: إننا لا نسلم أن اللاّم في قوله (لتركبوها) للتعليل، وعلى القول بالتسليم فانها لا تفيد الحصر في الركوب والزينة، فإنه ينتفع بالخيل في غيرهما وفي غير الأكل اتفاقا. وإنما ذكر الركوب والزينة لكونهما أغلب ما تطلب له الخيل. ونظيره حديث البقرة حين خاطبت راكبها فقالت: “إنا لم نخلق لهذا إنما خلقنا للحرث.”(26) فإنه مع كونه أصرح في الحصر لم يقصد به إلا الأغلب، وإلا فهي تؤكل وينتفع بها في أشياء غير الحرث اتفاقا. وأيضا فلو سلم الاستدلال للزم منع حمل الأثقال على الخيل والبغال، ولا قائل به.(27

ثانيا: أما العطف في الآية فدلالته إنما هي دلالة اقتران وهي ضعيفة

ثالثا: أن الامتنان بالركوب إنما قصد به غالبا ما كان يقع انتفاعهم بالخيل فخوطبوا بما ألفوا وعرفوا، ولم يكونوا يعرفون أكل الخيل لعزتها في بلادهم، بخلاف الأنعام فإن أكثر انتفاعهم بها كان لحمل الأثقال وللأكل فاقتصر في كل من الصنفين على الامتنان بأغلب ما ينتفع به

ويرى الشيخ أبوبكر محمود جومي رحمه الله تعالى أن الركوب والزينة أعظم من الأكل بالنسبة للخيل فالإمتنان في محله وعلى بابه. قال رحمه الله: “وذكر الركوب والزينة في الآية أعظم من الأكل فيما يختص بالخيل إذ ركوبها يأتي بفوائد كثيرة للأكل ولغيره فناسب ما هو أهم فيها وهو الركوب والزينة.” (28

رابعا: لا يلزم من الإذن في أكلها أن تفنى وإلا للزم مثله في البقر وغيره مما أبيح أكله ووقع الامتنان بمنفعة له أخرى

واستدل المانعون أيضا بحديث خالد بن الوليد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: “نهى يوم خيبر عن أكل لحوم الخيل والبغال والحمير.”(29) وأجاب المجيزون على هذا الحديث بإجابات

أولا: إن الحديث شاذ منكر لأن في سياقه أن خالدا شهد خيبر وهو لم يسلم إلا بعد خيبر بلا خلاف.(30

ثانيا: أن في إسناده صالح بن يحيى وهو ضعيف. قال الحافظ ابن كثير: “فيه كلام.”(31) وقال ابن حزم: “أما حديث صالح بن يحيى بن المقدام بن معديكرب فهالك لأنهم مجهولون كلهم.” (32

وبالجملة فإن هذا الحديث ضعيف لا نقوم بمثله حجة ولا يبنى عليه حكم شرعي. وممن ضعّفه من الأئمة أحمد والبخاري وموسى بن هارون والدارقطني والخطابي وابن عبد البر وعبد الحق وغيرهم.(33) بل قد نقل النووي الاجماع على تضعيفه فقال: “واتفق العلماء من أئمة الحديث وغيرهم على أن حديث خالد المذكور حديث ضعيف.”(34

ومما يزيد الحديث ضعفا معارضته للأحاديث الصحيحة المستفيضة كلها تقول بجواز الأكل. وقد ورد بعضها في الصحيحين، وستقف على بعضها إن شاء الله تعالى عند ما نأتي لعرض أدلة المجيزين.

وذكر الشيخ أبو محمد بن ابي حمزة أن مالكا رحمه الله استدل على كراهة أكل لحوم الخيل بانها تستعمل غالبا في الجهاد. قال: “فلو انتفت الكراهة لكثر استعماله، ولو كثر لأدى إلى قلتها فيفضي إلى فنائها فيؤول إلى النقص من ارهاب العدو والذي وقع الامر به في قوله تعالى: ومن رباط الخيل.”(35

وأجيب بأن حديث أسماء رضي الله عنها (وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى) يدل على أن الصحابة أكلوه في المدينة بعد فرض الجهاد، ففيه الرد على من منع أكلها بعلة أنها من آلات الجهاد.(36

ومما استدل المانعون به القياس. قالوا الفرس حيوان من ذوات الحوافر فهو لا يؤكل كالحمار. وأجاب المجيزون بأن هذا القياس قياس شبه وقد اختلف العلماء بالقول به كما هو مبسوط في كتب الاصول. وعلى التسليم به فهو منتقض بالخنزير فإنه ذو ظلف وقد باين في حكمه ذوات الأظلاف. وأيضا فإنه لا يجوز القياس في مقابلة النص؛ فإذا كان القياس في مقابلة النص فهو فاسد لا يلتفت إليه.(37

واستدل بعضهم كذلك بأن الخيل لا تجوز بها الأضحية، وقالوا لو كانت حلالا لجازت الأضحية بها. وأجيب بأن هذا منتقض بحيوان البحر، فإنه مأكول ولم تشرع الأضحية به. (38

هذه أدلة المانعين: آية حملت مالا تحمل، واستدل بها على قاعدة “لزوم مالا يلزم”، وحديث ضعيف منكر تعارضه أحاديث صحيحة ورد بعضها في الصحيحين، وقياس مختلف في مقابلة النص، ورأي محض لا يستند إلى حجة ولا إلى برهان. وهي كما يرى القارئ الكريم أدلة ضعيفة واهية أوهن من بيت العنكبوت

وبعد عرض أدلة المانعين والردود عليها نأتي الآن إلى عرض أدلة المجيزين والشبهات التي أثيرت حولها فنقول

أدلة المجيزين وشبهات حولها

     وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة في جواز أكل لحوم الخيل، وقد رواها أصحاب الصحاح والسنن والمسانيد فهي إن لم نقل متواترة تواترا معنويا فهي بلا شك مستفيضة مشهورة

     من هذه الأحاديث ما رواه جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قال: “نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية ورخص في الخيل.”(39) وفي رواية: “وأذن في الخيل

     وقد أثار المانعون شبهات حول هذا الحديث فقالوا إن هذه الرواية عن جابر وإن كانت صحيحة ثابتة فهي حكاية حال وقضية في عين، فيحتمل أن يكونوا أكلوها لضرورة، ولا يحتج بقضايا الأحوال.(40) وأجيب بأن هذا منتقض بحديث أسماء قالت: “نحرنا فرسا على عهد رسول الله ونحن بالمدينة فأكلناه.” (41) وقال الحافظ أبو عبد الله القرطبي: “وقد روى الدار قطني زيادة حسنة ترفع كل تأويل في حديث أسماء قالت: كان لنا فرس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أرادت أن تموت فذبحناها فأكلناها. فذبحها إنما كان لخوف الموت عليها لا لغير ذلك من الأحوال.”(42

     وعارض المانعون حديث جابر أيضا بحديث آخر في المنع روي عن جابر نفسه أخرجه الطحاوي وأبو بكر الرازي وابن حزم من طريق عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن جابر قال: “نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر والخيل والبغال.” لكنه حديث ضعيف وعلته عكرمة هذا. قال الطحاوي: “وأهل الحديث يضعفون عكرمة بن عمار.”(43) وكذا قال الحافظ(44) وابن حزم.(45)

     واستدل المجيزون أيضا بحديث أسماء رضي الله عنها قالت: “نحرنا فرسا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلناه.” (46) وفي رواية بزيادة: “ونحن بالمدينة.”

     فقال المانعون: لا حجة لكم في هذا الحديث لأنه ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم علم به وأقرهم عليه.(47) وأجيب بأن في إحدى الروايات عن أسماء زيادة قولها: “فأكلناه نحن وأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.” مع أن ذلك لو لم يرد لم يظن بآل أبي بكر رضي الله عنه أنهم يقدمون على فعل شيء في زمن النبي صلى الله عليه وسلم الا وعندهم العلم بجوازه لشدة إختلاطهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وعدم مفارقتهم له. (48) وأيضا إذا قال الصحابي: كنا نفعل كذا على عهد النبي فالراحج أن له حكم الرفع لأن الظاهر إطلاع النبي صلى الله عليه وسلم وإقرارهم عليه.(49)

     وهناك أحاديث كثيرة غير هذه استدل بها المجيزون منها حديث جابر رضي الله تعالى عنه قال: “ذبحنا يوم خيبر الخيل والبغال والحمير فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البغال والحمر ولم ينهنا عن الخيل.” رواه أبو داود وأحمد(50) بإسنادين كلا هما على شرط مسلم.(51) وروى الترمذي والنسائي عن جابر أيضا قال: “أطعمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوم الخيل ونهانا عن لحوم الحمر.”(52) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

     هذه أدلة المجيزين وبمجموعها يتبين حكم الشرع في أكل لحوم الخيل وهو أنه حلال طيب لا كراهة فيه ولاحظر. وليست لحوم الخيل حلالا فحسب، بل هي من ألذّ أنواع اللحوم قال سعيد بن جبير رحمه الله: “ما أكلت لحما (وفي رواية: شيئا) أطيب من معرفة برذون.”(53) فترك أكله فوت للتمتع بنعمة الله والأكل من الطيبات الذي أمر الله به الأنبياء وأتباعهم المؤمنين. قال تعالى: “يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم.”(54) وقال: “يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعيدون.”(55

     ولم يكن أكل لحوم الخيل قصرا على المسلمين دون غيرهم، فقد كان ذلك ولا يزال منتشرا بين أكثر الأمم المتمدنة بما فيها أهل الكتاب من الأوربيين وغيرهم.(56) وقد أثبت العلم الحديث أن لحم الخيل طيب وسائغ للأكل وليس في أكله ما يتعارض مع قواعد رعاية الصحة المتعارف عليها طبيا.(57

خاتمة: لا حجة مع أحد بعد رسول الله

     قد يقول قائل من المتمذهبين: نحن لا نأكل لحوم الخيل لأنه مكروه في مذهبنا. والجواب إن المذاهب لا تحل حلالا ولا تحرم حراما. وبعبارة أوضح ان التحليل والتحريم لا يتوقف على قول أحد من الأئمة والعلماء وإنما ذلك متوقف على قول الشارع قرآنا وسنة، فإذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث فذلك هو الحجة ولو خالفه جميع المذاهب؛ فإن الله لم يتعبدنا بالمذاهب.(58

     وإنما أمرنا بطاعته وطاعة رسوله وسؤال أهل الذكر من ورثة نبيه وحملة علمه. وأوجب علينا الاحتكام إلى الكتاب والسنة والرجوع إليهما متى حدث التنازع بيننا. قال تعالى: “يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، ذلك خير وأحسن تأويلا.”(59) فالرد إلى الله هو الرد إلى كتابه والرد إلى الرسول هو الرد إلى السنة الصحيحة

     ولذلك أوصى الأئمة الأربعة وغيرهم رحمهم الله باتباع الكتاب والسنة ونبذ أقوالهم متى ما خالفت أحدهما أو كليهما. قال الإمام مالك: “إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه.” وقال الإمام الشافعي: “إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم و دعوا ما قلت.” وقال الإمام أبو حنيفة: “اذا قلت قولا يخالف كتاب الله تعالى وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فاتركوا قولي.” وقال الامام أحمد: “لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري، وخذ من حيث أخذوا.” وقال: “ري الأوزاعي ورأي مالك ورأي أبي حنيفة كله رأي وهو عندي سواء. وإنما الحجة في الآثار.”(60

     وبهذا يتضح أن مذهب الأئمة هو اتباع الكتاب والسنة وأن كل من ترك أحاديث رسول الله لتقليد مذهبهم فهم – رحمهم الله – برءاء منه ولا يكون هو على مذهبهم. وبهذا تزول شبهة المتمذهبين من إخواننا المالكيّين وغيرهم الذين يتمسكون بالمذهب ولو خالف السنة الصحيحة. فالإمام مالك رحمه الله لم يقل بكراهة أكل لحوم الخيل إلا لأنه لم تبلغه الأحاديث المجيزة أو بلغته ولكن من طرق غير صحيحة عنده فلذلك لم يأخذ بها أو لغير ذلك من الأسباب. هذا هو اللائق بإمامته وجلالته وصلابته في الحق وجرأته فيه. وليس في هذا حجة لأحد من الذين يدّعون اتباعه وتقليده. فإن المتبعين للإمام مالك حقا هم المتمسكون بالكتاب والسنة كما دل عليه كلامه الذي نقلناه آنفا وغيره من كلماته الخالدة المملوءة إخلاصا ونصحا. والله ولي التوفيق والهداية

ثبت المراجع

(1)     سورة الإسراء، الآية: 26-27

(2)الموطأ للإمام مالك بن أنس مع تنوير الحوالك للسيوطي، دار الفكر بلا تاريخ. ج 1 ص: 327. والجامع لأحكام القرآن لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، دار الكتاب العربي القاهرة، 1384هـ/1967م ج 10 ص 76 وأحكام القرآن لأبي بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي دار الفكر بيروت، الطبعة الأولى، 1408 هـ/1988، ج3 ص 122، وكتاب المغني لأبي محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة، مكتبة القاهرة، الطبعة الأولى، 1389هـ/1969م، ج 9 ص: 411

(3)فتح الباري بشرح صحيح البخاري للإمام الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، دار المعرفة بيروت، بلا تاريخ، ج 9 ص 150

(4)تفسير القرآن العظيم للإمام الحافظ عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن كثير الدمشقي، دار المعرفة بيروت، الطبعة الثالثة، 1409هـ / 1989م ج 2 ص 583

(5)     تفسير القرطبي، ج 10 ص 76

(6)     أحكام القرآن لابن العربي، ج 3 ص 122

(7)رد الأذهان إلى معاني القرآن، للشيخ أبي بكر محمود جومي، دار العربية بيروت، 1402هـ / 1982م، ج 1 ص 346

(8)تفسير ابن كثير، ج 1 ص 583. وأحكام القرآن لابن العربي، ج 3 ص 122. والمغني لابن قدامة، ج 9 ص 411. وأحكام القرآن للإمام الحجة أبي بكر بن أحمد بن علي الرازي الجصاص، دار الفكر، بيروت، بلا تاريخ، ج 3 ص 184

(9)راجع فتح الباري، ج 9 ص 650 وتفسير ابن كثير، ج 2 ص 583 ونيل الأوطار شرح منتقى الأخبار للإمام محمد بن علي الشوكاني، دار الفكر بيروت، بلا تاريخ، ج 8 ص 678

(10)                   أحكام القرآن للجصاص ج 3 ص 184

(11)     راجع أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن تأليف العلامة محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي، مكتبة ابن تيمية القاهرة، 1408هـ / 1988م ج 2 ص 227

(12)                   المغني لابن قدامة، ج 9 ص: 411

(13)                   تفسير القرطبي، ج 10 ص 76

(14)     روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني لأبي الفضل السيد محمود الألوسي البغدادي، دار الفكر بيروت، بلا تاريخ، ج 14 ص 101

(15)                   تفسير ابن كثير، ج 2 ص 582، أضواء البيان للشنقيطي، ج 2 ص 227

(16)                   المغني لابن قدامة، ج 9 ص 411

(17)     قال بعد أن حكى الإباحة عن الشافعي: “وأما عند الأئمة الثلاثة فأكل الخيل حرام كباقي الدواب.” راجع حاشية الصاوي على الجلالين للعامة الشيخ أحمد الصاوي، طبع موسسة دار العلوم، بلا تاريخ، ج 2 ص 257

(18)                   راجع: أضواء البيان للشنقيطي، ج 2 ص 227

(19)     المحلى للإمام أبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم، مكتبة الجمهورية القاهرة، ج 8 ص 102

(20)                   فتح الباري، ج 9 ص 650

(21)                   المصدر السابق، ج 9 ص 650

(22)     نفس المصدر والصفحة، وانظر أيضا: المحلي لابن حزم، ج 8 ص 101

(23)                   سورة النحل، الآية 8

(24)                   سورة النحل، الآية 5

(25)     تفسير القرطبي، ج 10 ص 76، روح المعاني، ج 14 ص 101، أحكام القرآن، للجصاص ج 3 ص 183، فتح الباري، ج 9 ص 652، جامع البيان في تفسير للقرآن، أبو جعفر محمد بن جرير الطبري دار المعرفة بيروت 1398م ج 14 ص 57

(26)     حديث البقرة حديث صحيح رواه الأئمة ولفظه: “بينما رجل راكب على بقرة التفتت، فقالت: إنا لم نخلق لهذا إنما خلقنا للحرث”، أنظر صحيح البخاري للإمام محمد بن إسماعيل البخاري، مع شرحه إرشاد الساري للقسطلاني ، دار الفكر بيروت، 1305هـ ما جاء في الحرث والمزارع، ج 4 ص 173، وانظر كتاب فضائل الصحابة أيضا. وصحيح مسلم للإمام مسلم بن الحجاج النيسابوري (مع شرح النووي) بهامش ارشاد الساري باب فضائل الصحابة. ج 9 ص 8 ورواه أحمد والترمذي أيضا

(27)     راجع: تفسير القرطبي ج 10 ص: 78، وفتح الباري ج 9 ص 652-653

(28)                   رد الأذهان، ج1 ص 346

(29)     راجع: سنن النسائي للحافظ أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي، مع شرح الحافظ السيوطي وحاشية الإمام السندي، دار الفكر بيروت، الطبعة الأولى 1348هـ / 1930م ج7 ص 202، وسنن أبي داود للحافظ أبي داود ابن الأشعث السجستاني، دار الفكر بيروت، بلا تاريخ، ج10 ص 262، ومسند الإمام أحمد للأمام أبي عبد الله أحمد بن حنبل، المكتب الإسلامي، بلا تاريخ، ج4 ص 89، وأخرجه أيضا الدارقطني كما في القرطبي ج 10 ص 76

(30)                   فتح الباري. ج9 ص 651، والمحلى، ج8 ص 101

(31)                   تفسير ابن كثير ج 2 ص 58

(32)     المحلى لابن حزم، ج 8 ص 110، وانظر المغني لابن قدامة، ج 9 ص 12

(33)                   فتح الباري، ج 9 ص 652

(34)                   راجع أضواء البيان للشنقيطي، ج 2 ص 230

(35)                   فتح الباري، ج 9 ص 650

(36)                   المصدر السابق، ص 649

(37)                   نفس المصدر والصفحة. وراجع تفسير القرطبي، ج 10 ص 77

(38)                   فتح الباري، ج 9 ص 651

(39)     رواه البخاري، كتاب المغازي ج 9 ص 369-370، ومسلم كتاب الصيد، ج 8 ص 156، وأبو داود، كتاب الأطعمة، ج 10 ص260، والنسائي، كتاب الصيد والذبائح، ج 7 ص 201

(40)     راجع: تفسير القرطبي، ج 10 ص 77، وأحكام القرآن لابن العربي، ج 3 ص: 122

(41)                   رواه البخاري ومسلم. وانظر تخريجه في الحامش رقم: 46

(42)                   راجع: تفسير القرطبي ج 10 ص 77

(43)                   راجع: فتح الباري، ج 9 ص 651

(44)                   نفس المصدر والصفحة

(45)                   المحلى لابن حزم، ج 8 ص 101

(46)     رواه البخاري، كتاب الذبائح، ج8 ص 283، 286، ومسلم كتاب الصيد والذبائح، ج 8 ص 157. وراجع سنن ابن ماجه للحافظ أبي عبد الله محمد بن زيد القزويني، دار الفكر بيروت، بلا تاريخ، ج 2 ص 1064، وسنن الدارمي للإمام عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، دار الفكر بيروت. 1398هـ / 1978م، ج 2 ص 184

(47)                   أحكام القرآن للجصاص، ج 3 ص 184

(48)                   فتح الباري، ج 9 ص: 649

(49)                   نفس المصدر والصفحة

(50)     مسند الإمام أحمد، ج 3 ص 356، وأبو داود، كتاب الأطعمة، ج10 ص: 262

(51)                   راجع تفسير ابن كثير، ج 2 ص 583

(52)     النسائي، كتاب الصيد والذبائح، ج 7 ص: 201، والترمذي، باب ما جاء في أكل لحوم الخيل، ج 3 ص 163

(53)     المغني لابن قدامة، ج 9 ص 411، والمحلى لابن حزم، ج 8 ص 102. والبرذون الفرس، ومعرفته منبت عرفه من رقبته

(54)                   سورة المؤمنون، الآية: 51

(55)                   سورة البقرة، الآية: 172

(56)                   راجع:Gracey, J.F (1986) Meat Hygiene, 8TH edition, p. 1

(57)                   المصدر السابق، ص 54 و 57. ويراجع أيضا: Thorton and Gracey (1974): Textbook of Meat Hygiene

(58)     لبيان مسألة التمذهب والتقليد راجع: السيل الجرار للإمام الشوكاني وإرشاد الصحول له أيضا، والموافقات للإمام الشاطبي ج 4 طبع محمد علي صبيح

(59)                   سورة النساء، الآية: 59

(60)     راجع لهذه النقول: صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم للعلامة محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، 1403هـ/1983م، ص 23-33

 

مبادئ الحكم في فكر العقاد

عمر محمد لبطو

المقدمة

       موضوع هذا البحث المتواضع هو مساهمة العقاد1 في الفكر السياسي الإسلامي. وخلاصة هذه المساهمة هي نظريته في مبادئ الحكم كما شرحهافي مؤلقاته ومقالاته الصحفية. ومبادئ الحكم كما يراها العقاد هي تلك القواعد المعامة والخطوط العريضة التى يصاغ منها أنظمة الحكم وصوره الشكلية والتى تشكل العمود الفقري للدستور – أي دستور – والأساس الذى يبنى عليه نظامة. ويستمد الدستور هذه القواعد العامة من صميم العقيدة التى تدين بها الأمة التى تحكمة وتدين نفسها به أو ثقافتها العامة بما فيها التاريخ والعادات والتقاليد وغيرها

       ويستمد الدستور الإسلامي قواعده ومبادئه الأساسية من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة. وهذه القواعد – كما هو مقرر في سنة الدساتير – ثابتة لا تقبل التغيير مهما تغيرت الأزمان والأحوال والأوظان. ولكن الاسلام يترك لمعتنقية الحرية في وضع القوانين لتعديل هذه القواعد والأسس وتطبيقها بل وفي تعليقها أحيانا على حسب الطوارىء والضرورت. وبذلك ترك المجال واسعا لصياغة أنظمة للحكم تناسب كل مجتمع وكل عصر بحسب اختلاف الأحوال

       مثال ذلك أن الإسلام ألزم المسلمين بقاعدة الشوري في الحكم – فهي من المبادىء الأساسية للدستور الإسلامي – ولكنه لم يفصل كيف تكون الشورى ومن هم أهل الشورى، وكيف يعيّنون وهل يكون رأيهم ملزما أو غير ملزم وما إلى ذلك. فترك التفصيل في القاعدة هو الذي يمكن المسلمين من مراعات الأحوال المختلفة مكانا وزمانا وتطبيقها حسب هذه الأحوال

       والمقصود أن الإسلام يشتمل على مبادئ دستورية أساسية يمكن أن تصاغ منها أنظمة متنوعة أو أشكال متعددة

       وقد تتبعت هذه المبادىء في كتاباب العقاد وأحصيتها فوجدتها اثنتي عشرة مبدأ. ويرى العقاد أن هذه المبادئ المقتبسة من القرآن والسنة تسع لصياغة الأنظمة الحكمية التي تحتاج إليها الأمة الإسلامية بما فيها من احتلافات في المجتمع والبيئات والمشاكل الاقتصادية والسياسية والحاجاب المحليّة. وهو القدر الذى يلزم الإسلام معتنقيه أن يحكموا أنفسهم به ويدع لهم الحرية الكاملة فيما سواه فيبتكرون لأنفسهم نظما وصيغا وأشكالا للحكم تناسب أوضاعهم وأحوالهم ما دام أنها مبنية على هذه الأسس والقواعد لا تخرح عنها

       وهذه المبادىء والقواعد العامة – كما يرى العقاد – تكفل للبلاد الإسلامية الاتحاد تحت حكم الشرع كخطوة أولى في طريق تحقيق الوحدة السياسية للأراضي الاسلامية كلها. وفي الأفق ما قد يبشر بأن الأمة قد استأنفت سيرها التاريخي نحو ذلك. حقق الله تعالى الآمال

مبادئ الحكم

(المبدأ الأول: إن قواعد الحكم كلها منصوصة في آيات القرأن الحكيم)

       هذا المبدأ أهم المبادئ للدستور الإسلامي. فهو مصدر الدستور الذى يستمد منه شرعيته وقدسيته. إن القرآن الكريم يتضمن أحكاما تشريعية تتعلق بالعلاقات الاجتماعية في ميادين المعاملات المالية والعلاقات الدولية في الحرب والسلم، والعقوبات الجنائية وغير ذلك. وكذلك السنة النبوية تتضمن كثيرا من القواعد والأحكام الموضّحة والمفصّلة لما في القرآن أحكام

       لكن أكثر ما ورد في القرآن والسنة من الأحكام هو من باب الكليات والقواعد العامة التي يمكن أن يدخل تحتها من التطبيقات والتفريعات ما يمكن أن يجتهد في تطبيقه وتكييفه ومراعات الأحوال المختلفة فيه حسب الأزمان والمجتعمات والظروف. ويعتبر ما سكت عنه هذان الأصلان متروكا للاجتهاد مع مراعات أهداف الشريعة ومقاصدها

       والذي يقرره العقاد تحت هذا المبدأ أن التشريع نوعان: تشريع حددته الشريعة ولا مجال لتغييره ويجب على الحاكم والشعب التقييد به. وتشريع متروك للاجتهاد كتحديد العقوبات التعزيرية – مثلا – وتحديد طريقة الشوري في الحكم وغير ذلك. والاجتهاد متروك للإمام ولأهل الذكر بشرط مراعات مقاصد الشريعة وتقرير مصالح الأمة وضروراتها والظروف السياسية والاجتماعية التي تحيط بها2. وبهذا الوجة يكون القرآن قد نصّ على جميع قواعد الحكم لأنها إما منصوصة فيه صراحة أو منطوية تحت كلياته وقواعده العامة أو منصوصة جاءت بها السنة أو متروكة للاجتهاد، والسنة والاجتهاد كلاهما يكتسب شرعيته من القرآن كما هو معلوم

(المبدأ الثاني: ان الامام يتولى الحكم بالبيعة)

       يتبين للباحث من خلال دراسة آراء العقاد السياسية أن العقاد تناول تحت هذا المبدأ سبعة أمور. وهذه الأمور هي: البيعة، وأهل الحل والعقد أو من تنعقد بهم البيعة، وأنه لا عبرة لأكثرية الأصوات، وكيفية الانتخاب، ومن الذى يستحق الإمامة، وهل يتولى الإمامة بالوراثة، وكيف يتم عزل إمام إذا دعت الدواعي إلى ذلك؟

       يؤكد العقاد الدور الخطير الذي أعطاه الإسلام للشعب أو الأمة في تكوين الدولة وبنائها واختيار رأس الجهاز الذى يتولى أمرها ومدى مشاركة الفرد المسلم في حياة وطنه السياسية. ويتجسم هذا الدور في عمليتين: عملية الاختيار وعملية البيعة. أما عملية الاختيار أو الانتخاب فيقوم بها أهل الحل والعقد يختارون من يرونه أهلا لمنصب الخلافة، ثم يعرضون اسمه على الجمهور للبيعة العامة. فهي إذا مجرد ترشيح إذ أن الخلافة لا تنعقد الا بهذه البيعة الثانية: بيعة الجمهور. ويرى العقاد أنه يكفى أن يرشحه فرد واحد من أهل الحل والعقد أو يجتمع على ترشيحه عدد من المسلمين تجوز لهم صلاة الجمعة3 ثم تأتي البيعة العامة التى لا تنعقد الخلافة الا بها

       ولم يتعرض العقاد لتعريق أهل الحل والعقد أو وصفهم أو تحديدهم، ولا اشترط فيهم شروطا. ويكفي في وصفهم بأنهم أهل الحل والعقد أن نفهم أنهم هم الرؤساء أصحاب الرأي المتبع في المجتمع وهم الحكام والعلماء ورؤساء الجند وسائر الرؤساء والزعماء الذين يرجع اليهم في الحاجات والمصالح العامة4

       ويذهب العقاد الى أنه لا تلزم أغليبية الأصوات لانعقاد البيعة سواء في عملية الترشيح أو في البيعة العامة. أما في الترشيح فقد سبق أنه يرى كفاية ترشيح الفرد الواحد من أهل الحل والعقد. وأما في بيعة الجمهور فيستحسن أن تبايعه الأمة جميعا ان أمكن ذلك، أم إذا لم يمكن فعلى القدر الذي ترجح به الكفة وتمتنع به الفتنة.5 ويستدل على هذا الرأي بآيات قرآنية منها قوله تعالى: “أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا.”6 وقوله: “وما يتبع أكثرهم إلا ظنا.”7 وقوله: “وان تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله.”8 ثم يقول: “وإذا كان طاعة أكثر الناس تضل عن سبيل الله، فليس من الرشد لهم ولا لغيرهم أن يكون لهم الحكم المطاع.”9

       واشترظ العقاد صفات يجب توفرها في إمارة المسلمين ورياسة دولتهم، ويتفق في هذه الصفات مع كثير ممن كتبوا في هذا الموضوع من مفكري الإسلام القدامي والمحدثين مثل الماوردي وابن خلدون ومحمد المبارك والدكتور أحمد شلبي وغيرهم. وهذه الشروط هي العلم والثفاقة والخبرة السياسية والإدارية، والكفاية وسلامة الحواس والبصر بتدبير الجيوش وأمر الحرب.10 إلا أنه يؤكد صفة العلم والمعرفة ويقدمها على غيرها ويرددها في كثير من مقالا ته ومؤلفاته حتى انه ليكاد أن يشترط على الإمام أن يبلغ مرتبة الاجتهاد.11

       ويختلف عن القدامى في اشتراط القرشية، وهو شرط قال به أكثر فقهاء أهل السنة بل جمهورهم، كما يقول محمد المبارك.12 للحديث القائل: “الأئمة من قريش.”13 ويحاول العلماء المحدثون التخلص من هذا الشرط بأدلة يثبتونها منها أنه يخالف أصلا من أصول الإسلام وهو المساواة بين الناس وإلغاء التمييز الناشئ عن الانتساب إلى عشيرة او فبيلة او قوم او طبقة. وقد جاء هذا الأصل مقررا في صريح القرآن والحديث مثل قوله تعالى: “يـا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعملناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم.”1 وقوله عليه الصلاة والسلام: “كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى.”15 ومنها أن هذا الشرط كان وليد عضره وبيئته فرضته الحاجة والظروف المحيطة بالمسلمين في ضدر الإسلام وهو مكانة قريش بين العرب في ذلك العصر وانقيادهم لها فبل الإسلام وبعده فلم يكن يصلح للأمر غيرها حينذ.16

       ويقول العقاد في تنفيد هذا الشرط: “ان النبي لا يدعو إلى عصبية لأنه نهى عنها في أحاديث كثيرة، وبرئ من كل دعوة إلى العصبية فهو صلوات الله عليه يؤثر الامام القرشي لصفات القدرة على القيام بالأمانة، لا للعصبية ولو فقدت معها القدرة، وفد كانت قريش أقدر القبائل بمكة عاصمة الجزيرة في عهد الدعوة المحمدية، فكانت إمامتها هناك أرجح إمامة، وظلت كذلك إلى أن قام بالأمر من اجتمعت له شروط الإمامة دونها.”17

       ويرى العقاد كذلك أن الأمة قوّامة على الحاكم أو رئيس الدولة ورقبية عليه، فكما كان لها حق اختياره فلها كذلك أن تخلعة وتعزله ويشترط لذلك نقضه للعهد أو عجزه بعلة لا يرجى صلاحها ويراعى في ذلك اتقاء الفتنة.18

       هذا، ويلاحظ أن العقاد كثيرا ما يستعمل لفظ الإمام أو الإمامة للدلالة على منصب الخلافة أو منصب رئيس الدولة ولكنه مع ذلك لا يلتزم بهذا الاسم ولا يفضله على غيره من ألقاب المنصب المعروفة مثل الخليفة أو أمير المؤمنين بل لا يلقى بالا بهذه الألقاب كلها ولا يرى بأسا باستعمال غيرها ما دام أن النظام مبني على المبادئ العامة للحكم الإسلامي، فكأنه يعتنى باللباب دون القشور، وقد نص في غير ما موضع في كتاباته أنه لا يرى ضيرا في استعمال الأسماء الأجنبية المستعارة19

       ولا يخفى خطأ هذا الذي ذهب إليه العقاد رحمه الله لأنه يتنافى مع الاعتزاز بالإسلام والإعلان به والدعوة إليه وخصوصا في عصرنا هذا الذى تتنافس فيه النظم والمناهج والأيديولوجيات على سياسة الشعوب وقيادة الأمم. وقد قال تعالى: “ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إننى من المسلمين.”20

       على أن وضع عناوين غير إسلامية – كالاشتراكية والديمقراطية مثلا – للنظام الإسلامي يتضمن عدة مخاطر منها الاعتراف لهذه النظم والأيديولوجيات بالسموّ والكمال بحيث ينسب الإسلام إليها ويدخل تحت عنوانها. ومنها اقتضاء هذه المفاهيم تقديم جانب معين في الإسلام وتضخيمة على حساب جانب آخر أو جوانب أخرى. ومنها تعريض القيم الإسلامية للتغير تبعا لرواج منهج من هذه المناهح أو كساده. ومنها أيضا أن هذه المذاهب والعناوين المعروفة لها خط غير خط الإسلام وهدف غير هدفه، فهي إن التقت معه في بعض الأمور الجزئية فستخالفه في كثير من الكليات والأصول الجوهرية.21

(المبدأ الثالث: إن الإسلام يوجب على المسلمين أن تكون فيهم أمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر)

       يدخل تحت هذا المبدأ حق الأمة في المحاسبة والمراقبة والنقد كما يدخل تحته واجب النصيحة أو التناصح بين أفراد الأمة رؤسائها ومرءوسيها. ويشتمل كذلك ما يوجهه أفراد الشعب للحكام من مطالب لتحقيقها أو استنكار لأمور يطلب منعها. وهذا هو المعبر عنه بلغة القرآن بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ويعتبره العقاد بابا واسعا لمطالبة الشعب لرئيس دولته أو لحكامه بأمور كثيرة أو احتجاجه واستنكاره لأمور أخري وخاصة في رفع الظلم وعدم قبوله أو الصبر عليه.22 ويرى أنه لا بد من إثبات هذا الحق في الدستور حتى يكون دستورا إسلاميا حقا

       أما الشطر الثاني لهذا المبدأ فهو النصيحة، وتكون لله ولرسوله ولعامة المسلمين وأئمتهم كما جاء في الحديث. وهذا كما يوضح العقاد ليس حقا للشعب بل واحب على أفراده ولاسيما العلماء وأهل الرأي والخبرة في شتى الحقول والميادين والمجالات. وتتم النصيحة بتوجيه الحكام وتفسير أحكام الله لهم وإعانتهم على تطبيقها

(المبدأ الرابع: إن السيادة التشريعية موزعة بين الإمام وأهل الذكر وإجماع الأمة)

(المبدأ الخامس: إن مصلحة الأمة أساس في تطبيق الشريعة وفي وضع الأحكام التى لم تذكر بتفصيلاتها وعوارضها في آيات الكتاب)

       إن الذي يبحث في فكر العقاد السياسي يتبين له دخول أمرين تحت هذين المبدأين هما التشريع والشوري، ورأينا أن نناقش المبدأين معا لأن موضوعهما واحد، فكلاهما يتحدث عن التشريع

       والتشريع في الإسلام مصدره القرآن والسنة فيما حدد فيهما. وليس للحاكم ولا للشعب مطلق الحرية في التشريع كما يشاء بل كلاهما مقيد بما شرعه الله ورسوله. والمحدّد في الكتاب والسنة بعضه كليات ومبادئ عامة تفسح المجال لتشريع اجتهادي زمني تنفيذي، وبعضه الآخر أحكام تفصيلية محددة لا مجال لتغييرها وان كان ثمة مجال للنظر في كيفية تطبيقها أحيانا أو تقييدها بقيود قد توجبها المصلحة.23

       وهذا المجال للتشريع الاجتهادي هو الذي يعنيه العقاد ويرى أنه حق للأمة بل واجب عليها اذ يقول: “كل وال كفء للولاية مأذون له بل مفروض عليه أن يجتهد إذا طرأت له قضية لم يجد حكمها في الكتاب والسنة.”24 ويشارك الإمام في هذا الواجب أهل الذكر وهم أصحاب الشوري، ويرى العقاد انتخابهم من طائفة العلماء والفقهاء لأن التشريع – كما يقول – يجب أن يكون عاما في مصدره لا تحتكره طائفة مقفلة أي طائفة لا يدخلها أحد من خارجها كطوائف النسب أو المزايا الموروثة أو كل طائفة يقتصر الانتماء إليها على شروط لا تتحقق لكل إنسان بالعمل والعلم والاجتهاد.25 وبذلك يمثلون المجتمع حق التمثيل ويكون اجتهادهم، إذا اجتمعوا عليه، اجتماعا للأمة.26

       ويسرد العقاد قواعد الإجتهاد التى يلتزم بها الامام وأهل الشورى وأهل الذكر ويذكر منها اليسر وتفضيل السماح على التضييق ما أمكن السماح، ويدعم رأيه بالآيات والأحاديث وأقوال فقهاء الإسلام. فيذكر من الآيات قوله تعالى: “يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر.”27 وقوله: “لا يكلف الله نفسا إلا وسعها.”28 ويذكر من الأحاديث ما روى عن عائشة رضي الله عنها أنه عليه الصلاة والسلام “ما خيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما.”29 ويذكر من أقوال الفقهاء قولهم: “إن المشقة تجلب التيسير” وقولهم: “الضرورات تبيح المحظورات” وقولهم: “لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان”.30

       ويخص العقاد الإمام بنوع آخر من الاجتهاد في مجال التشريع وهو ما يسميه باجتهاد رعاية الضرورات وهو ليس من الاجتهاد الذى يجوز فيه الخلاف فهو موكول إلى الإمام ولا يخالفه فيه أحد لأن الإمام يتحمل تبعة الأمة كلها بما في ذلك تقدير مصالحها وضروراتها وتقدير ما يترتب على هذه المصالح والضرورات من إجراء الأحكام أو وقفها أو التوفيق بين أحوالها.31

      ويفرق العقاد بين هذا النوع من الاجتهاد والاجتهاد المألوف فيقول: “وليس هذا من الاختلاف الذي يجوز فيه الخلاف، لأن الاجتهاد اعتماد على تقدير لم يرد فيه نص صريح، وأما رعاية الضرورات فقد وردت فيها نصوص صريحة لا تفهم على معنى من المعاني ان لم يكن معناها أن للاضطرار حكما غير الاختيار وان تقدير الاضطرار في تطبيق الشرع موكول الى ولي الأمر ساعة حصوله.” ويستدل بقوله تعالى: “وقد فصل لكم ما حرم عليكم الا ما اضطررتم إليه.”32 ثم يقول: “فرعاية الضرورات نص صريح، والأمر بالتعقل والتفكير نص صريح. ومن قال بغير ذلك فهو الذى يجتهد برأي من عنده يخالف صريح النصوص.”33

(المبدأ السادس: إن أحكام الشريعة الإسلامية تنفذ في كل زمن وفي كل مكان ولا يعلق تنفيذها أو يؤجل إلا وفاقا لسيادة التشريع)

(المبدأ السابع: إن الحدود الجنائية لا تعطل إلا لعلة واضحة من علل الضرورات والشبهات)

(المبدأ الثامن: إن هذه الضرورات والشبهات مرجعها كله إلى حق السيادة المطلقة وهو حق الإمام الراعي وأهل الذكر والرأي المتفق عليه بين جمهرة الرعية)

       هذه المبادئ الثلاثة تتناول نظام القضاء في الإسلام ونطام العقوبات، وكون الحدود الشرعية لا تعطل إلا لضرورة أو شبهة، وأن تقدير الضرورات والشبهات راجع إلى الإمام ومن يستشيرهم من أهل العلم والمعرفة الذين يمثلون جميع الأمة

       إن نطام القضاء في الاسلام مبدأ مهم من المبادئ الدستورية المعترف بها في نظام الإسلام السياسي. وهو نظام مستقل استقلالا تاما لا يخضع لسلطان حتى سلطان الإمام الأكبر.34 ومعنى هذا إن القاضي يكون مستقلا في حكمه لا يحكم الا بما تملي عليه عقيدته وتعاليم الشريعة الإسلامية لا يخاف في حكمه لوم ضعيف ولا غضب قوي، يتمتع بالحصانة التامة بحيث لا يملك أحد في الدولة غزله حتى الإمام، وإذا مات الإمام لا ينعزل بل يسمر في وظيفته ولا يبالي بمن يتولى الأمر بعده.35

       أما وظيفة القاضي الأساسية فتشمل إقامة العدل بإنصاف المظلوم ومنع الاعتداء والظلم ومعاقبة الجناة. وقد جعل بعضهم هذا الاختصاص على نوعين: أحدهما تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين حتى تظهر المصفة فلا يتعدى الظام ولا يضعف المظلوم، وثانيهما إقامة الحدود لتصان محارم الله تعالى عن الانتهاك وتحفظ حقوق عباده من اتلاف واستهلاك. ويرى العقاد اجتماع قاضيمن أو جمع من القضاة على قضية واحدة وتعاونهم عليها وإصدار حكم واحد عليها36 كما يرى جواز نقض حكم في قضية أصدره قاض ولو كان عدلا وعرضه على قاض آخر أو قضاة آخرين بشرط أن يكون هذا الحكم قد خالف نص آية أو سنة أو إجماع أو قياسا لا يحتمل الا معنى واحدا أو قامت بينة على إن لهذا القاضي فيه رأيا فحكم بغيره سهوا.37 ويتقى في نظام القضاء مبدأ مهم وهو مبدأ عموم التطبيق والسريان. ويشرحه العقاد بقوله: “فهو التسوية بين الناس جميعا في الخضوع لأحكام القانون وعقوباته فلا يستثنى أحد بسبب من أسباب النسب أو الوجاهة أو الثروة.”38 ويتبين من هذا أن العقاد لا يرى استثناء أحد من القضاء لأجل منصبه السياسي أو مركزه الإداري ومن ثم عدم اعترافه بمبدأ الحصانة الذى يتمتع به في الدساتير الغربية رئيس الدولة وأعضاء البرلمان

       أما العقوبات في التشريع الاسلامي فتنقسم إلى نوعين: أحدهما عقوبات محددة لجرائم أساسية محددة إذا تمت في شروط معينة وتسمى الحدود. وثانيهما عقوبات ترك تحديدها للسلطات التشريعية وتثمل الإمام أو رئيس الدولة وأهل الشورى وغيرهم ممنيستعين بهم الإمام من ذوي المعرفة والاختصاص بأحوال الشرعية. فلهذه السلطة تحديد هذا النوع من العقوبات مع مراعات اختلاف أحوال الجريمة والمجرم وأحوال المجتمع، ولمعالجة ما تجدد من أنواع الجرائم والمنكرات والانتهاكات للحقوق، وتسمى هذه العقوبات بالتعزير

       والأصل أن عقوبات الحدود تنفذ في كل زمان ومكان وليس لأحد أن يتدخل في الأمر بوجه من الوجوه. ويستثنى من هذا العموم الشبهة والضرورة وحينئذ يسير الأمر إلى الإمام لأنه هو المسئول عن إقامة الحدود، ويعتبر العقاد هذا الاستثناء بابا واسعا للتشريع في مجال العقوبات لأن الإمام الذي يتحمل مستولية إقامة الحدود والأخذ فيها بالتشديد أو التخفيف هو نفسه مسئول أمام الأمة واتفاق الأمة يعد مصدرا من مصادر التشريع.39 فمن هذا الباب يلج الإمام وغير الإمام

       ومن هنا يحصل ما يسميه العقاد بالتوازن بين إشباع حاجة المجتمع وصيانة حقوق الفرد، فالعقوبات في نظام الإسلام تكفل للمجتمع حاجته التي تغنيه عن العقوبة، وهي قيام الوازع ورهبة المحظور، وتصون للفرد حقوقه في الضمان الوثيق والفرصة النافعة، وأول ضمان الفرد فيها شدة التحرج في إثبات التهمة، وتأويل الشبهة لمصلحته في جميع الحالات وتمكينه من الصلاح والتوبة، وإن خيف أن ترجح هذه الكفة على الأولى بأن يؤدى التشديد في حماية الفرد إلى إسقاط المعقوبات والاجتراء على المحظورات فالإمام موكل بالنظر في تلك المحظورات من طريق الزجر والتعزير.40

       وبذلك يكون الإسلام قد حقق ـ عن طريق نظام العقوبات ـ أمرين هما بمنتهى الأهمية للأمة: العدل وتنظيف المجتمع

 

(المبدأ التاسع: إن الفرد مسئول)

       إن الفرد في شريعة الإسلام حر فيما يأتى وما يدع ومسئول عن أعماله وما قدمت يداه. وهذا الحكم يشمل عوام الناس وخواصهم كما يشمل جميع تصرفاتهم سواء كانت بينهم وبين أفراد الناس أو كانت بينهم وبين أمتهم، قال تعالى: “كل امرئ بما كسب رهين.”41 وكذلك الخماعات والأمم، فهي حرة أيضا ومسئولة. قال تعالى: “تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم.”42 وحكام المسلمين وأمراءهم مسئولون بالأحرى لأنهم حاملوا أمانة فهم مسئولون أمام الله تعالى وأمام الشعب الذي ائتمنهم على نفسه وماله وعرضه

       ويقرر العقاد أن للحاكم أو رئيس الدولة تصرفات تتعلق بأموره الخاصة وعلاقاته الشخصية وهو في هذا المجال مسئول كسائر الناس وليس له حصانة خاصة

وعلى هذا يمكن أن يكون مدعيا ومدعى عليه يقف أمام القاضي مع أدنى رعيته، ويتحمل نتائج أعماله وتصرفاتة.43 وهذا بخلاف المعهود عند أمم الغرب الذين يدينون بالديمقراطية اللادنية، فيتمتع رؤساءهم بالحصانة ضد المحاكمة فلا يقفون أمام المحكمة ولا يحاكمون مهما ارتكبوا من ذنب أو اقترفوا من مساويء

       وللحاكم أيضا تصرفات تتعلق بولايته ولها صفة الوظيفة والعموم، ولها آثارها ونتائجها في مصالح الأمة أو بعض فئاتها أوأفرادها. وهوفي ذلك مسئول أمام الأمة والناس. ذلك لأن الناس ائتمنوه على أنفسهم وأموالهم ودينهم وديارهم واختاروه لإدارة شئونهم، ثم بايعوه على الطاعة مقابل تعهده بإقامة العدل وتنفيذ أحكام الشريعة. ولكل فرد منهم حق النصح له بل واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،44 وبذلك تتحقق المسئولية في الدستور الاسلامي وينتفي الاستبداد بمراقبة الأمة

(المبدأ العاشر: إن المجتمع الإسلامي ينكر احتكار الثروة ويحرم الربح بغير عمل ويقرر من ثروة الأمة كلها حصة للعجزة والمحرومين)

       ان هذا المبدأ يشمل نظام الاقتصاد الإسلامي الذي يرمي إلى العدل الاقتصادي وإسعاد أفراد الشعب وحماية المجتمع من الفتن والمساويء التي تنتج في الغالب من الظلم الاجتماعي والحرمان الاقتصادي

       ويولى العقاد هذا المبدأ اهتماما بالغا في كثير من مؤلفاته ومقالاته الصحفية، فنراه مثلا يكرره بحروفه تقريبا في موضوع آخر من كتابه “ما يقال عن الإسلام” إذ يقول: “قرر الإسلام أن يمنع الاحتكار وكنـز الأموال. وقرر أن يمنع الاستغلال بغير عمل، وقرر أن يتداول المجتمع الثروة ولا تكون دولة بين الأغنياء، وقرر أن تكون للضعفاء والمحرومين حصة سنوية لا تقل عن جزء من أربعين جزءا من ثروة الأمة كلها، وقد يزاد عليها بأمر الإمام وإحسان المحسنين.”45

       ويرى العقاد أن نظام الاقتصاد في الإسلام ينحصر في شيئين اثنين هما: منع الاسراف ومنع الحرمان.46 ويقرر الأصل المتفق عليه أن الملكية لله وحده وأن الناس إنما استخلفوا على ما يملكون فلا بد إذا من صرفه في محله وإنفاقه في وجهة حسبما تقتضيه أحكام الشريعة

       ويقول ان المال إنما جعل للإنفاق في سبيل الله، وفي طيبات العيش، وفي مرافق الحياة، والمحرومون العاجزون عن العمل محسوب لهم حسابهم في الثروة العامة فريضة لازمة لا تبرعا يختاره من يختاره.47

       ويبالغ العقاد في مسألة توزيع الثروة وتصنيح فرصة العمل والتملك لجميع أفراد الشعب بلا فرق، وتجره مبالغته هذه إلى القول بأنه هو السبب لانحطاط المجتمعات وانقراض الأمم، قال: “وقلّما تمتحن أمة بالبلاء في نظامها وقواعد حكمها إلا من قبيل هاتين الآفتين: أموال مخزونة لا تنفق في وجوهها وفقراء محرومون لا يفتح لهم باب العمل ولا باب الإحسان.”48

(المبدأ الحادي عشر: ان المعاهدين في دولة الإسلام لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم)

       ان المعاهدين أو الاقليات غير المسلمة في دولة الإسلام يمنحون حق الانتماء إلى الدولة أو ما يعرف اليوم بالجنسية والمواطنة، ويتم ذلك عن طريق العهد بينهم وبين المسلمين على بقاءهم في ظل الدولة الإسلامية والولاء لها

       يتناول العقاد حقوق المعاهدين في كتابه “الديمقراطية في الإسلام” فيذكر من أهمها الحقوق الدينية ويبين أنهم يتمتعون بحرية الاعتقاد ويسمح لهم ببناء الكنائس والبيع وإقامة الشعائر في ديارهم ولا يمنعون منها إلا ما يعطل شعائر الإسلام. وإنه لا تستباح عقوبتهم بالحدود الإسلامية فيما لا يحرمونه ولا يقاقبون أنفسهم عليه.49 ويسهب في الكلام عن معاملة المعاهدين في الشؤون الاجتماعية والعلاقات الشخصية والتعايش اليومي فيذكر استحباب معاملتهم والإحسان إليهم والكف عن أذاهم، ويستدل على ذلك بالأحاديث النبوية مثل قوله عليه الصلاة والسلام: “من آذى ذميا فقد آذاني.”50 وقوله: “من ظلم معاهدا أو كلفه فوق طاقته فأنا خصيمه يوم القيامة.”51

       وقرر العقاد المبدأ الذي يعفو المعاهدين عن القتال والدفاع عن الدولة ويدفعون مقابل ذلك مبلغا من المال يصرف في نفقات أمن الدولة.52 وهذا رأي يرى كثير من المفكرين المعاصرين التحرر منه نظرا إلى أن الأموال التي تنفق في الحرب العصرية هائلة جدا لا يبلغ المبلغ الذي تدفعه الأقليات مقابل الاشتراك في الحرب شيئا بالقياس إليه، ولأنه لا يتيسر الغدر والخيانة منهم في مثل هذه الحرب كما كان الأمر من قبل عندما كانت الحرب بالسيف والسنان، لذلك يرون اشتراكهم وتسقط هذه الضريبة في حال الاشتراك. وممن يرى التحرر من هذا المبدأ محمد المبارك صاحب كتاب “نظام الإسلام” الذي يقول فيه: “وهم ـ المعاهدون ـ متضامنون مع المسلمين في اطار الدولة السياسي ولذلك جاز لولي الأمر اشتراكهم في الحرب دفاعا عن الدولة، وهذا حسب رأي فريق من الفقهاء معنى ضريبة الجزية، ولذلك تسقط في حال اشتراكهم الفعلي في الدفاع.”53

(المبدأ الثاني عشر: إن العلاقات الدولية كلها تقوم على العهود والوفاء بها وخلوص في التزامها)

       يقسم المتخصصون في السياسة الدولية مجال العلاقات الدولية إلى قسمين: دبلوماسية وحرب. وللإسلام في كل واحد منهما نظامه وأحكامه المستوحات من مصادره الأساسية: القرآن والسنة

       أما الدبلوماسية في هذا النظام فتقوم على التفاهم وتحقيق الأمن عن طريق عقد المواثيق والتزامها والوفاء بها. ويرى العقاد الوفاء بالعهد من أسمى فضائل الإنسان التي تميزه عن غيره من سائر المخلوقات والخروج من هذه الفضيلة خروج من فضيلة الإنسانية ووقوع في حضيض الحيوانية والوحشية، ويستدل على ذلك بقوله تعالى: “إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون. الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون.”54 فلا بد إذا من إتمام العهود إلى مدتها ان كانت موقوفة بأجل متفق عليه ويجب إعلان بطلانها إذا صحت النية على إبطالها.55

       ويظهر مما تقدم أن الحوار والتعارف هو الطريقة المعترف بها في الإسلام للوصول إلى العلاقات الطيبة والتعايش السلمي بين مختلف شعوب العالم بصرف النظر عن معتقداتهم وجنسياتهم. ولا يجوز اللجوء إلى السيف لتوطيد العلاقات إلا عند الحاجة الماسة حيث تخفق جميع الوسائل السلمية. ومن هذه المواقف – كما يرى العقاد – موقف الدفاع عن النفس حينما تغير دولة على دولة الإسلام، فيجب حينئذ مقابلة العدوان بالعدوان. ومنها أيضا حالة الصد عن الدعوة الإسلامية والوقوف أمامها والحيلولة دون انتشار الإسلام عن طريق العنف لا عن طريق قرع الحجة بالحجة. ففي مثل هذه يحارب من يقف في طريق الدعوة بمثل سلاحم لأنهم لا يفهمون لغة الحجة والبيان.56

       وقد سن الإسلام في علاقات الحرب سننا هي أرفع ما عرفته البشرية في عصور الحضارة. ومن هذه السنن أمن الطريق وأمان الوادعين المسالمين، وفتح لمسالك للأرزاق والذهاب والمآب.

       ومنها أشضا تأمين الرسل وفداء الأسرى والسماح عن الغادرين والجواسيس إذا أمنت العاقبة وإلا قوبل الغدر بمثله وعوقب الجاسوس بعقابه المصطلح عليه في كل زمان ومكان. وعلى الجملة، فقوام المعاملات كلها في العلاقات الدولية على الرفق ما أمكن الرفق ثم على القوة المنصفة لاتقاء ما لا يتقى بغيرها

الخاتمة

       وبعد، فهذه هي القواعد العامة – كما يراها العقاد – للدستور الإسلامي التي يقوم عليها نظام الحكم في الدولة الاسلامية. وكل ما أنتجه العقاد في مجال الفكر السياسي الإسلامي فهو تفسير لهذه القواعد والمبادئ. وهو فكر واقعي استوحاه صاحبه من واقع أمته ومن الظروف السياسية والاقتصادية التي تحيط بها. فعند ما كانت هذه الأفكار تجول في خلد العقاد ويجري بها قلمه كانت الأمة الإسلامية مغلوبة على أمرها تجثو تحت قدم أعدائها متفككة ومتقطعة الأوصال. فليس الوقت إذا مناسب للدعوة الى اقامة دولة اسلامية عالمية واعادة الخلافة الراشدة. فاذا صعب على المسلمين إعادة دولتهم المتفككة فلا أقل من أن تجتمع دوله المختلفة على هذه القواعد الأصلية، ثم لتضع كل دولة بعد ذلك ما يناسبها من أنظمة وأشكال حسب متطلبات البيئة والمجتمع والظروف السياسية المحلية

الهوامش والمراجع

(1)   هو عباس محمود مصطفى العقاد. من مشاهير الأدباء والكتاب في القرن العشرين ومن رواد الفكر في مصر وفي العالم الإسلامي. ولد عام 1889م وتوفي أوائل سنة 1964م. له إلمام بالفكر الغربي والإسلامي وترك عشرات المؤلفات في شتى العلوم

(2)   العقاد: حقائق الإسلام وأباطيل خصومة، المجلد الخامس من المجموعة الكاملة لمؤلفات العقاد، دار الكتاب اللبناني – بيروت – الطبعة الأولى، 1974 م ص 237. وانظر أيضا: الديمقراطية في الإسلام، في نفس المجلد، ص 508

(3)         العقاد، حقائق الإسلام وأباطيل خصومه، ص 251

(4)   الدكتور أحمد شلبي، السياسة والاقتصاد في التفكير الإسلامي، مكتبة النهضة المصرية، الطبعة الثانية، 1974م ص 55

(5)         العقاد، حقائق الإسلام، ص 252

(6)         الفرقان، 44

(7)         يونس، 36

(8)         الأنعام، 116

(9)   العقاد، الفلسفة القرآنية، دار الهلال، بدون تاريخ ص 31، وانظر أيضا: الديمقراطية في الإسلام، ص 486

(10)  العقاد، الديمقراطية في الإسلام، ص 478

(11)أنظر على سبيل المثال كتابه الإسلام دعوة عالمية، المجلد السادس من المجموعة الكاملة لمؤلفات العقاد، دار الكتاب اللبناني، بيروت، الطبعة الأولى، 1974م ص 27. ويراجع أيضا حقائق الإسلام، ص 228

(12)  محمد المبارك، نظام الإسلام، ص 67

(13)  أحمد بن حنبل، المسند، الكتب الاسلامي ،بيروت، بدون تاريخ، ج 3 ص 129

(14)  الحجرات، 13

(15)  أحمد بن حنبل، المسند، ج 2 ص 361

(16)محمد المبارك، نظام الإسلام، ص 76-81؛ وانظر السياسة والاقتصاد في التفكير الإسلامي للدكتور أحمد شلبي ص 45-48

(17)  العقاد، الديمقراطية في السلام، ص 478

(18)  العقاد، المصدر السابق ص 179

(19)أنظر على سبيل المثال: ما يقال عن الإسلام، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الثانية، 1966م ص 188 و 234

(20)  فصلت، 33

(21)يراجع لهذه المسألة المهمة: الحل الإسلامي فريضة وضرورة للدكتور يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، الطبعة الثالثة، 1977م ص 113-114

(22)  العقاد، ما يقال عن الإسلام، ص 189

(23)محمد المبارك، نظام الإسلام، ص 80، ويراجع تفصيل ذلك في نظام الحكم الإسلامي للدكتور محمود حلمي، اسم دار الطبع محذوف، الطبعة السادسة، 1980م ص 212-242

(24)  العقاد، الديمقراطية في الإسلام، ص 508

(25)  العقاد، المصدر السابق، ص 507

(26)  العقاد، ما يقال عن الإسلام، ص 189. ويراجع أيضا: الفلسفة القرآنية، ص 31

(27)  البقرة، 185

(28)  البقرة، 233

(29)  البخاري مع الفتح، طبع دار الحديث، القاهرة، 1998م ج12 ص 101

(30)  العقاد، الديمقراطية في الإسلام، ص 510-511

(31)  العقاد، حقائق الإسلام، ص 237-238

(32)  الأنعام، 119

(33)  العقاد، حقائق الإسلام، ص 239

(34)  العقاد، الديمقراطية في الإسلام، ص 514

(35)  محمد المبارك، نظام الإسلام، ص 84

(36)  العقاد، الديمقراطية في الإسلام، ص 154

(37)  العقاد، المصدر السابق، ص 515

(38)  العقاد، نفس المصدر، ص 808

(39)  العقاد، الفلسفة القرآنية، ص 88

(40)  العقاد، نفس المصدر، ص 89

(41)  الطور، 2

(42)  البقرة، 141

(43)  العقاد، الديمقراطية في الإسلام، ص 508

(44)  العقاد، الفلسفة القرآنية، ص 32

(45)  العقاد، ما يقال عن الإسلام، ص 188

(46)  العقاد، الفلسفة القرآنية، ص 32

(47)  العقاد، الإسلام دعوة عالمية، ص 34

(48)  العقاد، الفلسفة القرآنية، ص 33

(49)  العقاد، الديمقراطية في الإسلام، ص 518

(50)  الدارمي، السنن، دار صادر، بيروت، بدون تاريخ، ج 2 ص 33

(51)  الدارمي، السنن، ج 2 ص 37

(52)  العقاد، الديمقراطية في الإسلام، ص 518

(53)  محمد المبارك، نظام الإسلام، ص 123

(54)  الأنفال، 55

(55)  العقاد، الفلسفة لقرآنية، ص 80

(56)  العقاد، المصدر السابق، ص 81

 

محاولة التوفيق بين الفلسفة والدين

دراسة تحليلية لمساهمتي الكندي وابن رشد

الدكتور عمرمحمد لبطو

بسم الله الرحمن الرحيم

تمهيد

       إن الفلسفة هي أم العلوم التي تولدت منها كل العلوم الطبيعية والعقلية. لذلك فخدمة الفلسفة تعد خدمة للعلوم كلها كما أن حفظها وصيانتها يعد حفظا للعلوم وصيانة لها

       وقد قام العلماء المسلمون بخدمة الفلسفة بشتى الوسائل والطرق، منها دراسة آراء القدماء من فلاسفة اليونان وترجمتها إلى اللغة العربية ووضع الشروح والحواشي عليها مما حفظ لها كيانها وصانها من الضياع، وخصوخا في القرون الوسطى. ومن المقرر تاريخيا أن الأوربيين قد استفادوا من هذه الخدمة كثيرا إذ توسلوا إلى استكشاف الفلسفة اليونانية عن طريق الترجمة العربية وبنوا عليها نهضتهم الحديثة

       ومن أهم الخدمات التي قدمها العلماء المسلمون للفلسفة العمل على التوفيق بينها وبين التعاليم الدينية والنصوص الشرعية مما يسر لها قبولا بين جمهور المسلمين حتى أقبل الحكام والسلاطين ينفقون على الجهود المبذولة في إحياءها وصيانتها وتجديدها. ومن أبرز الشخصيات في هذا المجال الشيخ يعقوب بن اسحاق الكندي والشيخ أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد ومساهمتهما في هذا الشأن هي موضوع هذا البحث المتواضع

مقدمة

       لم يكن المسلمون أول من حاول التوفيق بين الفلسفة والدين. فقد سبقهم إلى ذلك أمم كثيرة. فاليهود مثلا قد حالوا التوفيق بين تعاليم ديانتهم وبين الفلسفة اليونانية سالكين في ذلك طريق التاويل. فنرى “فيلون” الإسكندري اليهودي المتوفى سنة 50 بعد الميلاد يحاول تأويل الشريعة الموسوية تأويلا عقليا حتى تتمشى مع آراء الفلاسفة الرائجة في عصره. والمسيحيون أيضا قاموا بنفس المحاولة وسلكوا نفس الطريق للتأليف بين معتقداتهم المختلفة وبين آراء الفلاسفة ومذاهبهم. فإن رجال المسيحية مثل “كليمننس” المتوفى سنة 217م و”اوريجنس” المتوفى سنة 254م والقديس (أغوسطينس) المتوفى سنة 430 وغيرهم من أبناء الكنيسة المسيحية قد عملوا على التوفيق بين الفلسفة اليونانية والديانة المسيحية ومهدوا بذلك السبيل لظهور الفلسفة المدرسية.1

       وكذلك المسلمون لما وصلتهم فلسفة اليونان وخصوصافلسفة (ارسطو) ووجدوا فيها بعض الآراء التي لا تتفق مع معاليم الشريعة الإسلامية، رأوا من الواجب عليهم الخوض في موضوع التوفيق بين الفلسفة والدين وإثبات العلاقة بينهما

مسائل الفلسفة

       وإذا ألقينا نظرة عامة على مسائل الفلسفة فإننا نستطيع أن نقسمها إلى قسمين رئيسيين: القسم الأول المسائل الطبيعية كالبحث عن أحوال الكون والجواهر المعدنية وأحكام النبات ومبادئ الطب وأشكال الكواكب وكيفية جريانها في أفلاكها وغير ذلك. وهذه المسائل لا دخل للدين فيها ولا يضر ذا العقيدة تصديقها أو تكذيبها بحال من الأحوال

والقسم الثاني: المسائل الإلهية أو الإلهيات، وهذا القسم يتفرع إلى ثلاث مسائل جزئية

  1. مسألة قدم العالم أو حدوثه ومسألة قدم الجواهر
  2. مسألة البحث عن علم الله تعالى وهل هو كلي أو جزئي؟
  3. مسألة البعث بعد الموت وهل هو بالروح والجسد معا أم هو بالروح فقط؟

فهذا القسم الثاني هو محل النزاع الشديد بين المسلمين وبين الفلاسفة اليونان وهو الميدان الذي صال فيه وجال الفلاسفة المسلمون للتوفيق بين الفلسفة والدين أو بين الحكة والشريعة – كما يقولون

نظرة عامة

       لقد حاول الفلاسفة المسلمون التوفيق بين الفلسفة والدين لاعتقادهم أن الفلسفة والدين يساند كل منهما الآخر في كل المسائل الجوهرية. وان بدا بينهما تعارض فانه ليس حقيقيا وانما نشأ نتيجة لسوءفهم كليهما.2 وقد خاض في هذا الموضوع كبار فلاسفة الاسلام، وقلما تجد فيلسوفا مسلما الا وله أقوال أو تصانيف في هذا المجال

فابن طفيل مثلا يقول: ان للدين والفلسفة غاية واحدة وهو معرفة الخير المطلق. الا أن لهذه المعرفة طريقين مختلفتين أحدهما طريق العقل وهو طبيعي وصريح وواضح، والآخر طريق الوحي الذي جاء مصحوبا بالرموز والأمثال. واذا كان الأنبياء والرسل قد اعتمدوا على الرموز الحسية في تبليغ رسالتهم فمرد ذلك الى أن معظم الناس عاجزون عن ادراك الحقائق المجردة عن الحس والخيال. واذا كان هناك خلاف بين الظاهر والباطن أمكن رفعه بطريق التأويل.3

والفارابي يقرر أن الحقيقة واحدة وان اختلفت الطرق المؤدية اليها. وهذا الايمان بوحدة الحقيقة هو الذي حملة على الجمع بين آراء “افلاطون” و “أرسطو” وبين معطيات العقل ومعطيات الوحي. وقد بذل مجهودا عظيما في اثبات النبوة اثباتا عقليا وقام بهجمات ضد الملحدين الذين يحاربون جميع الأديان وينكرون النبوة. وكثيرا ما كان يؤول النصوص تأويلا موافقا لنظراته الفلسفية

وابن سينا لم يأخذ بنظرية الفيض إلا للتوفيق بين ما جاء في فلسفة “أرسطو” من القول بقدم العالم وما جاء في الشرع من القول بإبدائه. وهو قد نحا نحو الفارابي في تفسير النبوة تفسيرا علميا وقال بخلود النفس ولجأ إلى طريقة التاويل في التوفيق بين آراء الفلسفة ومعتفداته الدينية.4

ويقول الكندي ان صدق المعارف الدينية يعرف بالمقاييس العقلية معرفة لا ينكرها إلا الجاهل. والمعرفة العقلية والمعرفة الدينية عنده لا تختلفان إلا في الظاهر. وقد قام بمحاولات قيمة في تصانيفه للجمع بين أصول الشرع وأصول المعقولات.5

أما ابن رشد فإنه لم يقتصر على التوفيق بين الحكمة والشريعة في بعض نظرياته الفلسفية فحسب، كما فعل أسلافه الشرقيون والأندلسيون، بل أفرد لدراسة هذا الموضوع كتابا سماه “فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الإتصال”. وابن رشد أكثر فلاسفة الإسلام خوضا في هذا الموضوع وأشد دفاعا عن الفلسفة والعقل حتى عرف بـ “فيلسوف العقل”

الأسباب والدوافع

ويحسن بنا هنا أن نشير الى بعض الأسباب التي دفعت الفلاسفة المسلمين الى المحاولة للتوفيق بين الفلسفة والدين. وأول هذه الأسباب هو أن القرآن الكريم بآياته العديدة يدعوا الى النظر والبحث في جنبات الكون. فهناك آيات كثيرة تشيد بذكر أولي الألباب وتثني على الذين يتفكرون في خلق السماوات والأرض وتحث المسلمين حتى وغير المسلمين على النظر في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء كما تدعو الناس بأن يسيروا في الأرض فيشاهدوا مخلوقات الله ويعتبروا بعبرها. ومن هذه الآيات البينات قوله تعالى

“كذالك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون.”6

وقوله: “قد بينا لكم الآيات ان كنتم تعقلون.”7

وقوله: “ولدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون.”8

وقوله: “الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار.”9

وقوله: “ان في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون.”10

وقوله: “أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.”11 إلى غير ذلك من الآيات التي تدعو إلى النظر والبحث والتفكير

       ثاني هذه الأسباب أو الدوافع التي حملت الفلاسفة على محاولة التوفيق بين الحكمة والشريعة أن الفلسفة كان ينظر إليها نظرة شك وارتياب. وكثيرا ما كان العلماء – وخاصة من المتكلمين – يهاجمون الفلاسفة ويحكمون على بعضهم بالكفر والمروق من الدين. وكثيرا ما يكون مثل هذا الحكم غير صادر عن الفهم الحقيقي للفلسفة والإحاطة بمذاهبها الكثيرة ومسائلها المتعددة

       وثالث هذه الأسباب هو أن كثيرا من الفلاسفة المسلمين قد لحقهم الأذى بسبب اشتغالهم بالفلسفة. ولذلك رأوا أن يقوموا بمحاولة التوفيق بين الدين والفلسفة كنوع من أنواع الدفاع النفسي الشريف الذي يتخلصون به من أعدائهم من المتكلمين وسائر الطوائف الإسلامية.12

       هذه أهم الدوافع التي جعلت الفلاسفة المسلمين يعملون بجد ودأب للتوفيق بين الحكمة والشريعة وبين علوم الوحي وعلوم العقل وبين الفلسفة والدين. وقد رأينا آنفا أن معظم فلاسفة الإسلام قد خاضوا في هذا الموضوع وتركوا لنا منه تراثا له قيمته بين التراث العقلي البشري الذي هو ميراث للجميع. إلا أن هناك إمامين من أئمة الفلسفة الإسلامية اشتهروا في هذا الموضوع أكثر من غيرهم وذلك لأنهما تجردا لهذا الموضوع بالبحث والتنقيم، وأفردا له مصنفات خاصة دافعا فيها عن الفلسفة وقطعا شوطا بعيدا في محاولة التوفيق بين الفلسفة والدين. وهذان هما يعقوب بن اسحاق الكندي وأبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد

الكنـدي

       كتب الكندي رسالة مستقلة في هذا الموضوع وبين فيها جواز الإشتغال بدراسة كتب الفلاسفة اليونان. تلك هي رسالته إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى. وفي الصفحات الأولى من هذه الرسالة نطالع تمهيدا يحاول فيه الكندي ابعاد التهم عن الفلسفة والمشتغلين بها وبيان وجه الحاجة إليها لكي ينتهي من ذلك إلى بيان اتفاق الشريعة والحكمة. والدراسة الدقيقة لهذه الرسالة تبين أن هناك أربعة عناصر تناولها الكندي بالشرح والتفصيل ليتوصل بها إلى هدفه الأول وهو التوفيق بين الفلسفة والدين. وهذه العناصر هي

       أولا: يقول الكندي إن صناعة الفلسفة التي تعرف بأنها علم الأشياء بحقائقها بقدر طاقة الإنسان، من أعلى الصناعات الإنسانية منزلة واسماها مرتبة. وسبب ذلك أن غرض الفيلسوف في علمه هو إصابة الحق وفي عمله العمل بالحق.13

       ومعنى هذا أنه إذا كان الفيلسوف يسعى نظريا إلى إصابة الحق ويسعى من جهة العمل أن يعمل بالحق الذي يدركه بالنظر، فإنه لا يستطيع أحد من المهاجمين أن يطعن في الإشتغال بعلوم الحكمة طالما أ الغرض نظريا والغرض عمليا من الأغراض النبيلة المشروعة

       ثانيا: إذا كان غرض الفيلسوف إصابة الحق فإننا لا نجد مطلوباتنا من الحق من غير علة. وعلة وجود كل شيء وثباته هو الحق.14 ومعنى هذا – في نظر الكندي – إن كل ما له انية له حقيقة. فالحق إذا موجود اضطرارا لإثبات وجوده. وأفضل الفلسفة وأعلاها مرتبة الفلسفة الأولى التي هي علم الحق الأول الذي هو علة كل حق. ولذلك يجب أن يكون الفيلسوف التام الأشرف هو المرء المحيط بهذا العلم الأشرف. لأن علم العلة الأولى أشرف من علم المعلول. لأنا إنما نعلم كل واحد من المعلومات علما تاما إذا نحن أحطنا بعلم علته.15

       ثالثا: يقرر الكندي أنه من الأشياء الضرورية والواجبة ألا نذم الذين كانوا أسباب منافعنا البسيطة، فكيف إذا بهؤلاء الذين هم أسباب منافعنا العظيمة الجادّة. إنهم أفادونا إفادات كبيرة، إذ سهلوا لنا الكثير من المطالب الفكرية الخفية، تلك المطالب التي لم يكن باستطاعتنا أن نصل إليها لولا وجودهم وبحثهم عن الحقيقة

       ويقول الكندي: “فينبغي أن يعظم شكرنا للآتين بيسير الحق فضلا عمن أتى بكثير من الحق، إذ أشركونا في ثمار فكرهم وسهلوا لنا المطالب الحقيقة الخفية بما أفادونا من المقدمات المسهلة لنا سبل الحق. فإنهم لو لم يكونوا لم تجتمع لنا مع شدة البحث في مددنا كلها هذه الأوائل الحقية التي بها تخرجنا إلى الأواخر من مطلوباتنا الخفية. فإن ذلك إنما حصل في الأعصار السالفة المتقادمة عصرا بعد عصر إلى زماننا هذا مع شدة البحث ولزوم الدأب وإيثار التعب في ذلك.”16

       رابعا: إذا كانت الفلسفة قد أتت لنا من بلاد غريبة عنا، أو من أمم مباينة لنا، فإننا – فيما يقول الكندي – يجب أن لا نستحيي من استحسان الحق من أين أتى، حتى إنه لو أتى من الأجناس البعيدة والأمم المتباينة. وفي هذا رد على ما كان يشاع من أن الفلسفة إذا كان مصدرها اليونان والباحثون فيها فلاسفة وثنيون، فإنه يجب الإبتعاد عنها لأنها أتت إلينا من بلاد غريبة وبعيدة عنا

       هذه جوانب من محاولة التوفيق بين الفلسفة والدين عند الكندي. وهو لم يقف عند مدح الفلسفة والاشادة بأغراضها السامية وشكر الفلاسفة على هذا الجميل الذي أسدوا به إلينا، بل ذهب إلى أنه يجب على الجميع طلب الفلسفة ودراستها حتى هؤلاء الذين يحاربونها، بحيث نتقي سوء التأويل الذي يقوم به أهل الغربة عن الحق على حد قول الكندي.17

       وبعد دفاع الكندي عن الفلسفة وتبريره الإشتغال بها ورده على من يسئ الظن بها ويحاربونها، نراه يحاول أن يبين لنا أن المسائل التي تبحث فيها الفلسفة وتقوم بدراستها قد أتى بها الرسل. فهو يقول: “لأن في علم الأشياء بحقائقها علم الربوبية وعلم الوحدانية وعلم الفضيلة، وجملة كل علم نافع والسبيل إليه والبعد عن كل ضار والإحتراس منه. واقتناء هذه جميعا هو الذي أتت به الرسل الصادقة من الله جل شأنه. فإن الرسل صلوات الله عليها ]كذا[ انما أتت بالاقرار بربوبية الله وحده وبلزوم الفضائل المرتضاة عنده وترك الرزائل المضادة للفضائل في ذواتها وايثارها.”18

       وللكندي غير هذه الرسالة رسالة أخرى في “كمية كتب أرسطوطاليس وما يحتاج إليه في تحصيل الفلسفة” حاول فيها أيضا التوفيق بين الدين والفلسفة. وفي هذه الرسالة الثانية يتناول الكندي علوم الأنبياء وعلوم الفلاسفة بالدرس والبحث الدقيق كما يبين الفوارق وأوجه الشبه بينها ويحاول التخلص إلى أنه لا فرق بين هذه وتلك إلا في طريقة التحصيل

       ومما سبق يتضح لنا مدى اسهام الكندي في موضوع التوفيق بين الفلسفة والدين. فهو أقدم الفلاسفة المسلمين خوضا في هذا الموضوع. وقد كانت لآراءه ورسائله بالغ الأثر في الفلاسفة الذين أتوا بعده. وهو الذي فتح الباب في هذا المجال واقتفى الفلاسفة المسلمون آثاره حتى جاء ابن رشد الذي حاول أن يعيد للفلسفة مجدها الذاهب بعد أن سدّد إليها الإمام الغزالي ضرباته القاسية. ويلاحظ تقاربا بينا بين آراء الكندي في هذا المجال وآراء ابن رشد إلا أن ابن رشد أكثر دقة وصراحة من الكندي وإن كان للكندي فضل السبق

ابن رشد

       لابن رشد رسالتان ضمنهما آراءه في مجال التوفيق بين الفلسفة والدين وهما: “فصل المقال فيما بين الفلسفة والشريعة من الإتصال” وكتاب “الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملّة وتعريف ما وقع فيها بحسب التأويل من الشبه المزيغة والعقائد المضلة”. ولعل ابن رشد خير من أفرد لهذا الموضوع مؤلفا بعينه ناقش فيه كل المسائل المتصلة به على شيء من الاسهاب والتبسيط. وليس هذا بالأمر المستعرب، فإن ابن رشد جاء بعد الغزالي الذي يقال عنه انه قضى على الفلسفة والفلاسفة قضاء نهائيا بعد صدور كتبه العديدة في نقد الفلسفة مثل “مقاصد الفلاسفة” و “تهافت الفلاسفة” و “المنقذ من الضلال” وغيرها

       في أول كتاب “الفصل” يحاول ابن رشد أن يثبت أن النظر الفلسفي مأمور به في الشرع الإسلامي فيقول في الصفحة الأولى إن غرضة من هذا الكتاب هو الفحص عن جهة النظر الشرعي: هل النظر في الفلسفة وعلوم المنطق مباح في الشرع أم محظور أم مأمور به؟

       وللإجابة على هذا التساؤل يبدأ ابن رشد بتحديد معنى الفلسفة فيقول: “ان فعل الفلسفة ليس شيئا أكثر من النظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع.”19 والإسلام يدعو إلى النظر في الموجودات واعتبارها بالعقل. ففي قوله تعالى: “فاعتبروا يا أولى الأبصار” إشارة صريحة إلى وجوب استعمال القياس العقلي، كما أن في قوله تعالى: “أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء” الأعراف: 184، وقوله “ويتفكرون في خلق السموات والارض” آل عمران: 191، حثا على النظر في الموجودات. ونستنتج من ذلك أن النظر في الفلسفة مأمور به على جهة الندب أو على جهة الوجوب.20

       ويستمر في الاستدلال قائلا: إذا صح أن الإعتبار ليس شيئا أكثر من استنباط المجهول من المعلوم وهو القياس العقلي، وجب علينا أن نجعل نظرنا في الموجودات مبنيا على هذه الطريقة. وهذا النوع من النظر هو الذي حث عليه الشرع، وهو أتم أنواع القياس وهو المسمى برهانا. وإذن فينبغي لمن يريد أن يصل إلى معرفة الله وسائر الموجودات أن يتعلم أنواع البراهين وشروطها، وأنواع القياس وأجزائه، ومقدماته وأنواعها، فإن نسبة هذه الأمور إلى النظر كنسبة الآلة إلى العمل.21

       ويخلص ابن رشد من هنا إلى القول بوجوب الإستعانة بما قاله القدماء من الفلاسفة وغيرهم لفهم ما يحتاج إليه من القياس العقلي، فوجب على الأجيال المتعاقبة أن تستعين على ذلك بعضها ببعض حتى تكمل المعرفة. قال: “فيتبين أنه يجب علينا أن نستعين على ما نحن في سبيله بما قاله من تقدمنا في ذلك، وسواء كان ذلك الغير مشاركا لنا أو غير مشارك في الملّة. فإن الآلة التي تصبح بها التزكية ليس يعتبر في صحة التزكية بها كونها آلة لمشارك لنا في الملّة أو غير مشارك إذا كانت فيها شروط الصحة. وأعني بغير المشارك من نظر في هذه الأشياء من القدماء وقبل ملة الإسلام.”22 فيجب علينا، حسب رأي ابن رشد، أن ننظر في كل ما قاله القدماء، فما كان صوابا قبلناه، وشكرناهم عليه، وما كان غير صواب نبهنا عليه وحذرنا منه

وحاصل كلام ابن رشد أن دراسة كتب القدماء واجب بالشرع، فمن نهى عن النظر فيها من كان أهلا لذلك بذكاءه وفطانته، كان كمن يصد الناس عن الباب الذي دعى الشرع إلى معرفة الله به وهو باب النظر. ولا يضر هذا أن بعض الناس يخوضون في كتب الفلسفة ويضلون سواء السبيل، فلا ينبغي أن يتخذ ذلك ذريعة لمنع هذه الكتب عن الذي هو أهل للنظر فيها

ثم يحاول ابن رشد التوفيق – بصورة مجملة – بين الحقيقة الدينية والحقيقة الفلسفية، ويقول إنه لا خلاف بينهما إلا في المصدر فقط. فالحقيقة واحدة إلا أن مصدر الحقيقة الدينية هو الوحي، ومصدر الحقيقة الفلسفية هو العقل

ويرى ابن رشد أن الشريعة الحقة إنما تدعو إلى معرفة الله كما تدعو إلى النظر البرهاني المؤدي إلى معرفة الحق. والحقائق التي يؤدي إليها النظر البرهاني قد تكون مسكوتا عنها في الشرع أو منطوقا بها، فإن كانت مما سكت عنه الشرع لم يكن بينها وبين الشرع تناقض. وإن كانت مما نطق به الشرع كانت إما موافقة لظاهر النص أو مخالفة له. فإن كان الشرع موافقا لما أدى إليه النظر البرهاني فلا إشكال هناك، وإن كان مخالفا له وجب رفع التناقض الذي بينهما بطريقة التأويل.23

وجملة القول إن الشريعة تدعو إلى معرفة الله ومعرفة مخلوقاته من طريق النظر، وإذا كانت الشريعة تدعو إلى النظر المؤدي إلى الحق “فإننا معشر المسلمين نعلم على القطع أنه لا يؤدي النظر البرهاني إلى مخالفة ما ورد به الشرع، فإن الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له.”24

ويلاحظ أن ابن رشد يعترف بالتأويل كوسيلة للتوفيق بين الفلسفة والدين كما أنه وسيلة للتوفيق بين محكم الآيات ومتشابهها. ويرى أن التأويل ضروري للتوفيق بين ظاهر الشرع وباطنه كما هو ضروري للتوفيق بين الدين والفلسفة.25

ومعنى التأويل عند ابن رشد هو اخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقة إلى الدلالة المجازية من غير أن يخل في ذلك بعبارة لسان العرب في التجوز من تسمية الشيء بشبيهه أو سببه، أو لاحقه أو مقارنه، أو غير ذلك من الأشياء.26

إن كثيرا من ألفاظ الشرع إذا حملت على ظاهرها قد تتعارض مع ما أدى إليه البرهان العقلي، ولكنها إذا أولت تأويلا صحيحا لم يكن بينها وبين ما أدى إليه البرهان العقلي تناقض، يقول ابن رشد: “ونحن نقطع بأن كل ما أدى إليه البرهان وخالفه ظاهر الشرع، فإن ذلك الشرع يقبل التأويل على قانون التاويل العربي.”27

هذه جوانب من محاولة التوفيق بين الحكمة والشريعة عند ابن رشد. ويرى القارئ الكريم أن الطريق الذي سلكه ابن رشد في هذا الموضوع طريق وسط، يرتفع عن حضيض التقليد وموارد الهوى ويتجنت جدل المتكلمين ، وينبه على وجوب النظر البرهاني في مسائل الشريعة، لأن الحكمة – كما يقول – صاحبة الشريعة وأختها الرضيعة، وهما المصطحبتان بالطبع … والمتحابتان بالجوهر والغريزة.28 فإذا وقع بينهما عداوة أو بغضاء أو مشاجرة أو أذى، فمرد ذلك إلى المشتغلين بكليهما. فيجب على كل من يريد الوصول إلى الحق أن يتجنب الطرق الخطابية والجدلية ويتبع الطرق البرهانية، وإذا كان الناس متفاوتين في الوصول إلى الحق فسبب ذلك اختلاف قواهم العقلية لا إختلاف الحق، فالحق واحد وإن كانت صوره المرتسمة على صفحات الذهن مختلفة، وإذا وقع خلاف ظاهر بين الشريعة والفلسفة أمكن رفعه بالرجوع إلى العقل، لأن العقل هو الهادي إلى الحق. ومعنى ذلك أن غاية الشريعة والفلسفة واحدة، وهي تعلم الحق والعمل بالحق. فلا مفاضلة في نهاية الأمر إلا بطريقة الوصول إلى الحق، واتباع الطرق البرهانية أفضل من اتباع الطرق الجدلية والخطابية

خاتمة: عبقرية الإسلام

       ويبقى الآن جانب واحد من جوانب محاولة التوفيق بين الحكمة والشريعة طرقه الفلاسفة المسلمون وأجادوا فيه أرى أن أذيل به هذا البحث فيكون كخاتمة له، وهذا هو جانب الفكر والعمل أو جانب النظرية والتطبيق. وذلك أن الفلاسفة اليونان كانوا أساسا مفكرين كرسيين – إن صح هذا التعبير. وبعبارة أخرى، فإن الفلاسفة اليونان ما كانوا قط رجال عمل بل كانوا رجال فكر فحسب، ولم ينقل إلينا أن أحدا منهم جاهد أو ناضل في سبيل تحقيق مثله العليا التي يملؤ بها رأسه وصحفه. بل كانوا يكتفون بالفكر المجرد، يعيشون في دنيا الخيال منعزلين عن الجماهير، وبعيدين عن تيار الوقائع والأحداث

       ونجد هذا الإتجاه في الأفلاطونية الحديثة في تعظيم العقل المجرد والعلم النظري ووضعهما في مرتبة فوق العمل. كما نجد هذا الإتجاه نفسه عند “أرسطو” في كتاب “الأخلاق” حيث يضع التأمل العقلي في ذروة الكمال الأخلاقي، ونجده أيضا بصورة أوضح عند أفلاطون في كتاب “الجمهورية” حيث يدعو إلى إقامة مجتمع طبقي تتسع فيه الهوة بين الطبقة الحاكمة من الفلاسفة وطبفة المحكومين من العمّال. ولم ينكر أفلاطون على طبقة العمال حق المشاركة في الفلسفة فحسب، بل وحق التربية والتعليم كذلك. وبقدر ما يرفع أفلاطون من قيمة التفكير العقلي في جمهوريته فإنه بصورة مباشرة وغير مباشرة يحط من قيمة العمل اليدوي

       ومن المعلوم أن الإسلام لا يكتفي بالفكر دون العمل ولا بالنظرية دون التطبيق، والنظرة العجلى في صفحات القرآن الكريم تثبت هذه الدعوى. لذلك قام كثير من فلاسفة الإسلام بالرد على فلاسفة اليونان الآخذين بهذا الإتجاه الخاطئ وأكدوا الصلة الوثيقة بين العلم والعمل، وبين النظرية والتطبيق

       فالفيلسوف أبو الحسن العامرري المتوفى سنة 381هـ / 992م يرى أن هناك علاقة وثيقة بين العلم والعمل ويرد على الذين يقولون أن العلم ينبغي أن يطلب لذاته بغضّ النظر عما إذا كان يحقق أهدافا عملية لصالح الفرد والمجتمع، فيقول: “إن كل من أثر هذه الحقيقة فقد ارتكب خطأ فاحشا، فإن العلم مبدأ العمل والعمل تمام العلم. ولا يرغب في العلوم الفاضلة إلا من أجل الأعمال الصالحة.”29

       ويرى أبو بكر الرازي أن العقل – وهو أساس كل فكر فلسفي – يدعونا إلى مواجهة الحياة العملية الواقعية وعدم الإنعزال عنها أو الهروب منها، أو ارتكاب ما يؤدي إلى تعويقها أو تخريبها. ولذلك نراه ينتقد بعض أهل الأديان الأخرى وبعض طوائف المسلمين –كالمتصوفة – لمسلكهم الهروبي من الحياة.30

       وكذلك يرى أبو نصر الفارابي أن الفيلسوف الحق هو الذي يحصل الفلسفة وتكون له قوة على استعمالها، ويدرس الفضائل ويتحلى بها. أما الفيلسوف الذي يتعلم العلوم النظرية ولم يعود الأفعال الفاضلة “فهو الفيلسوف الزور والبهرج والباطل.”31

       هذ آخر ما طرقت من جوانب التوفيق بين الفلسفة والدين عند الفلاسفة المسلمين. وهو جانب ذو أهمية خاصة لأنه يمثل عبقرية الإسلام في خلق تناسق وانسجام تام بين مختلف عناصر الحياة: بين الروح والمادة، بين الدنيا والدين، بين النظرية والتطبيق. ويعد هذا الجانب أساسا للطريقة التجريبية أو ما يسمونه بـexperimentation وقد أخذ هذه الطريقة فلاسفة الغرب فبنوا عليها تهضتهم الحديثة، وإليها يرجع الفضل في الإختراعات العصرية والعوالم العديدة التي غزاها الإنسان والآفاق الواسعة التي فتحها

       وأخيرا نرجع إلى محاولة التوفيق هذه بنظرة عامة فنقول إنها كانت حقا محاولة ناجحة آتت أكلها مرتين. فلم يقبل المسلمون فلسفة اليونان نتيجة جهود القائمين بها فحسب، بل أقبلوا عليها يدرسونها ويحصّلونها ويضعون شروحا وهواشي على أهم كتب الفلاسفة التي وصلت إلى أيديهم مما يعد خدمة عظيمة ليس للأمة الإسلامية فحسب بل وللبشرية جمعاء

المراجع

(1)         دكتور جميل صليبا: تاريخ الفلسفة العربية، دار الكتاب اللبناني 1981م ص 456

(2)         محمد عاطف العراقي: مذاهب فلاسفة الشرق، بلا تاريخ ولا دار الطبع، ص 28

(3)         دكتور جميل صليبا: المصدر السابق، ص 457

(4)         نفس المصدر، ص 515

(5)         المصدر نفسه، ص 456

(6)         البقرة: 242

(7)         آل عمران: 118

(8)         الأعراف: 169

(9)         آل عمران: 191

(10)   البقرة: 164

(11)  الحج: 46

(12)  محمد عاطف العراقي: المصدر السابق، ص 29-30

(13)يعقوب بن إسحاق الكندي: رسالة الكندي إلى العتصم بالله في الفلسفة الأولى بتحقيق زكريا يوسف، مطبعة سفيق، بغداد، 1965م ص 97

(14)  نفس المصدر والصفحة

(15)  نفس المصدر، ص 79-101

(16)  المصدر نفسه، 102

(17)  المصدر نفسه، 103

(18)  المصدر نفسه، 104

(19)أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد: فصل المقال فيما بين الفلسفة والشريعة من الإتصال، مطبعة الجمهورية المصرية بالقاهرة، 1319هـ ص 2

(20)  الدكتور جميل صليبا، المصدر السابق، ص 458

(21)  المصدر السابق، ص 459

(22)  ابن رشد، المصدر السابق، ص 4

(23)  دكتور جميل صليبا، المصدر السابق، ص 461

(24)  ابن رشد، المصدر السابق، ص 7

(25)  دكتور صليبا، المصدر السابق، ص 464

(26)  ابن رشد، المصدر السابق، ص 8

(27)  ابن رشد، نفس المصدر والصفحة

(28)  ابن رشد، نفس المصدر، ص 26

(29)  يوسف يعقوب مسكوني: مفهوم الفلسفة الإسلامية، دار الشعب 1975م ص 55

(30)  المصدر السابق، ص 56

(31)  نفس المصدر، ص 56

 

      

 

 

Leave a comment